فمن أهم مزايا " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري ": جَمْعُهُ طرقَ الحديث وألفاظه في مكان واحد، يمتاز الإمام مسلم أنه إذا أخرج الحديث يذكر الطرق كاملةً بألفاظها في موطن واحد، بخلاف البخاري الذي ذكرنا أنه يروي الحديث في كل موطن حسب التبويبات التي يذكرها، وربما اختلفت ألفاظ الحديث، وربما قَطَّع الحديث الواحد إذا كان طويلًا فيختصره فيذكر موطن الشاهد فقط تحت كل باب، أما مسلم فيمتاز بأنه يذكر الحديث كاملًا بطرقه وألفاظه في موطن واحد.

وفي الحقيقة هذه تكاد تكون كل كتب المصطلح، تذكر أن هذا هو الوجه الذي فُضِّل به " صحيح مسلم " على " صحيح البخاري ".

--------------------------------------------------------------------------------

ولكن هذا الوجه – من باب الإنصاف للبخاري ومسلم – هو مَزِيَّة من وجه، وتصرُّف البخاري أَمْيَز وأفضل من وجه آخر، فلا شك أن من أراد الفقه والاستنباط سيجد أن فعل البخاري أفضل، ومن أراد أن يعرف الصَّنْعة الحديثية وأن يحفظ الحديث بطرقه وألفاظه سيجد أن صنيع مسلم أفضل، ولذلك لا يمكن أن نُطْلِق القول بأن " صحيح مسلم " أفضل من " صحيح البخاري " من ناحية الترتيب والتبويب، إلا أن نقول: إنه أفضل من " صحيح البخاري " من ناحية الترتيب والتبويب للمُحَدِّث، أما إذا قلنا بأنه أفضل وأردنا أن نعرف للفقيه أيهما أفضل، فلا شك أن " صحيح البخاري " يكون أفضل من " صحيح مسلم "، فإذا أردنا أن نطلق هذه العبارة لا بد أن نقيدها بهذا القيد؛ أنه أفضل للمحدِّث الذي يريد أن يعرف الطرق والألفاظ، أما من أراد أن يعرف الفقه فـ" صحيح البخاري " أفضل.

من مزايا " صحيح مسلم " - وسبق ذكرها - على " صحيح البخاري ": عنايته الكبرى باللفظ - بلفظ الحديث - وتحرير اختلاف الرواة في الألفاظ ولو دَقَّتْ، بل حتى في صيغ الأداء مثل: " حدثنا، وأخبرنا "، وسبب ذلك: أن مسلمًا يفرِّق بين استخدام " حدثنا " واستخدام " أخبرنا "، وهذه مسألة خلافية عند المحدثين: هل حدثنا وأخبرنا بمعنى واحد أو ليست بمعنى واحد؟

فمن أهل العلم مَنْ يرى أنها بمعنًى واحد، وعلى رأس هؤلاء البخاري، البخاري يرى أن " حدثنا وأخبرنا وسمعت وعن " كلها بمعنى واحد تؤدي الاتصال.

وأما مسلم فيفرِّق بين " حدثنا " و" أخبرنا "، ويعتبر أن " حدثنا " لفظ يُستخدم لِمَا أُخذ عن الشيخ بالسماع؛ لأن طرق التَّحَمُّل - كما سبق في درسنا العام الماضي - منها طريقة السماع، ومنها طريقة العَرْض أو القراءة على الشيخ.

--------------------------------------------------------------------------------

السماع: أن يحدِّث الشيخ ويسمع الطلاب، والقراءة: أن نأتي بحديث هذا الشيخ ونقرأه عليه وهو يسمع، مثل طريقة قراءة طلبة القرآن على مشايخهم؛ يأتي الطالب ويقرأ على الشيخ والشيخ يسمع، إذا كان هناك أخطاء يصوبها له.

فهاتان طريقتان من طرق التلقي في السُّنة؛ فمسلم يرى أن ما أُخذ بالسماع يُستخدم معه كلمة " حدثنا "، و ما تُلُقِّي بالعَرْض يستخدم معه كلمة " أخبرنا "، ولذلك كان يُدَقِّق في ألفاظ شيوخه وشيوخ شيوخه الذين استخدموا هذه العبارة، ولذلك تجده مثلًا مرة يقول: " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُمَيْر؛ أما ابن أبي شيبة فقال أخبرنا، وأما ابن نمير فقال حدثنا "، مع إنها عند البخاري واحد ما كان يُتْعِب نفسه ويقول أما وأما …، لكن لأنه يفرِّق ويريد أن يدقق في ألفاظ الشيوخ، حتى هذه الصيغ كان يبيِّن الفروق فيما بينها عليه رحمه الله.

هذا من مزاياه الكبرى في الحقيقة والتي تبين دقته المتناهية، لِأَنه دَقَّقَ في مثل هذه الألفاظ وتَحَرَّى في هذه الاختلافات اليسيرة، فكيف سيكون تَحَرِّيه في متن الحديث وألفاظ الحديث؟! لا شك أن هذا دلالة وعلامة أنه سيبلغ من التحري مبلغًا عظيمًا.

من مزايا الإمام مسلم في هذا الكتاب وهي متعلقة أيضًا بدقته وتحريه: ما ذُكر عنه من منهجه في سياق الأحاديث التي تُروى بإسناد واحد، فمثلًا صحيفة همام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة كلما أراد أن يروي حديثًا منها يروي بالإسناد عن همام بن منبه عن أبي هريرة يقول: " وذَكَر أحاديث ومنها حديث كذا ".

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015