ونجد أيضا في صيد الخاطر، ينقد نهج السلف، فيقول: ( ... ولكن أقواما قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعليل، ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا) وقد قام بالرد على ما كتبه ابن الجوزي مائلا إلى التأويل عالم معاصر له، وهو الشيخ إسحاق بن أحمد بن غانم العلثي حيث كتب رسالة يرد فيها على ابن الجوزي ردا عنيفا طالبا فيها العودة إلى الحق وإلى العقيدة السلفية وإلى ما كان عليه إمامه أحمد بن حنبل، رحمه الله، حيث يقول فيها: (وإذا تأولت الصفات على اللغة وسوغته لنفسك وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب بهذا، فاختر لنفسك مذهبا، حتى قال: فلقد استراح من خاف مقام ربه وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم، لئلا يندم. فانتبه قبل الممات، وحسن القول والعمل، فقد قرب الأجل لله الأمر من قبل ومن بعد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
ثانيا- (كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذره في هذا واضح وهو أنه كان مكثرا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره وربما كتب في الوقت الواحد تصانيف عديدة ولولا ذلك لم تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة).
سيجد القارئ مثالا لذلك من ثنايا هذا الكتاب، حيث يذكر المؤلف في المقدمة أنه سيناقش وقائع النسخ ببيان صحة الصحيح وفساد الفاسد، ثم يأتي إلى قضايا النسخ فيوردها ببيان الخطأ أو الصواب تارة -وهو كثير- وتركه أخرى. وأمثال ذلك كثيرة، سأبينه في الخاتمة إن شاء الله.
ثالثا- (ما يوجد في كلامه من الثناء على نفسه والترفع والتعاظم، وكثرة الدعاوى، ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه) كقوله: في صيد الخاطر ( ... ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا) ويقول في موضع آخر: (خلقت لي همة عالية تطلب الغايات) وأمثال ذلك كثير. ولعل ما قدم للأمة من القدوة الصالحة والخدمة الخالصة التي لا مثيل لها، تغطي مساوئه، وترفع درجاته، لأن الحسنات يذهبن السيئات، والله واسع المغفرة والكرم وهو عليم بذات الصدور.
وفاته:
بعد أن عاش، رحمه الله، داعيا مرشدا كاتبا بارعا زاهدا مخلصا، قرابة تسعين عاما، انتقل إلى جوار ربه ببغداد. وكانت وفاته ليلة الجمعة (12 رمضان 597هـ) بين العشائين، فغسل وقت السحر، واجتمع أهل بغداد وحملت جنازته على رءوس الناس، وكان الجمع كثيرا جدا، وما وصل إلى حفرته إلا وقت صلاة الجمعة، والمؤذن يقول: الله أكبر، ودفن بباب حرب، بالقرب من مدفن الإمام أحمد بن حنبل وكان ينشد حال احتضاره يخاطب ربه:
يا كثير العفو عمن
كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو
الصفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء
الضيف إحسان إليه
فرحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ونفعنا بعلومه آمين.
شيوخه:
وقد ألف ابن الجوزي في مشيخته كتابا خاصا، ذكر فيه حوالي تسعة وثمانين شيخا ونرى فيه حسن اختياره للمشائخ حيث تتلمذ على طائفة من خيرة أعلام عصره، ويذكر اهتمامه في اختيار أبرع وأفهم المشائخ في بداية كتابه المذكور، حيث قال: حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم، فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل، أفهمهم، فكانت همتي تجويد المدد لا تكثير العدد فمن مشائخه:
1 - أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت، وتنتهي نسبته إلى كعب بن مالك الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلفوا، يقول المؤلف: أنه قرأ عليه، وكان ثقة فهما حجة متفننا في علوم كثيرة، منفردا في علم الفرائض، وقع في أيدي الروم أسيرا فأجبروه على أن ينطق كلمة الكفر فلم يفعل، توفي رحمه الله سنة (535هـ).
2 - أبو بكر محمد بن الحسن بن علي بن إبراهيم المعروف بالمزرعي، قال ابن الجوزي، أنه سمع منه وكان ثقة ثبتا، عالما، حسن العقيدة، وسمع الحديث الكثير من ابن المهتدي، والصيريفيني وغيرهما، توفي رحمه الله سنة (527هـ).
3 - أبو الحسن علي بن عبد الواحد الدينوري، يقول المؤلف أنه سمع منه الفقه والحديث، والجدل، والخلاف، والأصول، وهو من أقدم شيوخه وكان يسكن باب البصرة من غربي بغداد، وتوفي في جمادي الآخرة سنة 521هـ.
¥