لم يكن جهاده محصورا في القلم والتأليف إنما كان له شأن عظيم وشهرة كبيرة في الوعظ والخطب والدعوة والإرشاد بين الخواص والعوام.
يقول ابن كثير، رحمه الله: (تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة بما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة).
شجاعته في إظهار الحق:
كان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يحضر في وعظة الروساء والخلفاء، وقد التفت مرة إلى ناحية الخليفة المستضيء العباس، وهو يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك، وإن قول القائل لك: اتق الله، خير لك من قوله لكم: أنتم أهل البيت مغفور لكم ... وأضاف قائلا لقد كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم.
وهكذا دافع ابن الجوزي عن الحق بدون خوف لومة لائم وحارب البدع والمنكرات والتعصب في المذاهب والتقليد الأعمى، وقد كان يعترف بنجاحه في هذا المجال فيقول: (وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم وكانت كلمتنا هي العليا).
محنته في سبيل الحق:
وقد امتحن ابن الجوزي، رحمه الله، في آخر عمره، وذلك أن الوزير ابن يونس الحنبلي كان في ولايته قد عقد مجلسا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي، وأحرقت كتبه. وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأي الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جده وسلمها إلى ابن الجوزي.
فلما ولى الوزارة ابن القصاب -وكان رافضيا خبيثا- سعى في القبض على ابن يونس وتتبع أصحابه، فقال الركن: أين أنت عن ابن الجوزي، فإنه ناصبيّ، ومن أولاد أبي بكر، فهو أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبه بمشورته؟ فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر -وكان الناصر له ميل إلى الشيعة- وكان يقصد إيذاء ابن الجوزي فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه وأهانه وختم على داره وشتت عياله، ثم أخذ في سفينة إلى واسط فحبس بها في بيت وبقي يغسل ثوبه ويطبخ، ودام على ذلك خمس سنين وما دخل فيها حماما فالمحنة بشتى أنواعها والصبر عليها والاستمرار على الوقوف في وجه الباطل والظلم والطاغوت من دأب العلماء العاملين والمجاهدين المخلصين. وقد رسم لنا العلامة ابن الجوزي من خلال حياته سلسلة متصلة من الكفاح والجهد الطويل والربط بين العلم والعمل ربطا وثيقا.
وقد عقد فصلا مستقلا في كتابه صيد الخاطر تحت عنوان "العلماء العاملون" فمدح فيه من يستحق المدح من أقرانه، وذم من يستحق ذلك ثم قال: (فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلسا مع قوة الحجة عليه).
ما أخذ عليه:
رغم وصوله إلى قمة العلم والمعرفة فقد أخذ العلماء عليه مآخذ هامة:
أولا- كان يميل إلى التأويل في بعض كلامه: يقول ابن رجب في الذيل: (اشتد إنكار العلماء عليه في ذلك، وكان مضطربا في قضية التأويل رغم سعة اطلاعه على الأحاديث في هذا الباب فلم يكن خبيرا بحل شبه المتكلمين، ويقول: كان أبو الفرج تابعا لشيخه أبي الوفاء ابن عقيل في ذلك، وكان ابن عقيل بارعا في علم الكلام ولكنه قليل الخبرة في الأحاديث والآثار لذا نراه مضطربا في هذا الباب).
نعم، قد نجد ما يثبت ميوله إلى التأويل من ثنايا كتبه حيث ألف كتابا مستقلا يناقش هذا الموضوع باسم "دفع شبه التشبيه" وهو مطبوع أورد فيه بعض الآيات القرآنية، وستين حديثا ورد فيها الكلام عن ذات الله وصفاته سبحانه وتعالى، كالوجه، واليد، والنفس، والساق، والاستواء، فيؤولها بما يحتمل التأويل بخلاف ما ذهب إليه السلف من إمرارها كما وردت بدون تأويل ولا تشبيه، ولا تعطيل.
¥