لا يستقيم أن يكون من مقتضيات تلك الدراسة وما ينبني عليها: تغيير ما قد علم واشتهر وتحقق من مرتبة ذلك الناقد ومنزلته بين أهل فنه ولو إجمالاً؛ فلا يجمح البحث بالباحث إلى أحكام وشروحات للألفاظ الاصطلاحية مقتضية أو مفهمة خلاف حال ذلك الناقد؛ مثل أن يكون مقتضاها أنه ضعيف في الفن أو مخالف لجمهور المحدثين ولأهل اللغة في أمر سهل واضح بين، مع أن الواقع خلاف ذلك.
وكذلك لا يقصر به من البحث ويمنعه من نتائج جديدة كل ما اشتهر من حال الناقد.
فمثلاً الترمذي اشتهر أنه متساهل في التحسين، فإذا أردت استقراء مصطلح التحسين عند الترمذي، فإنه لا يصح أن تمتنع من أن تسلم لنتيجة أخرى قد ينتهي إليه البحث مثل كون الترمذي معتدلاً وهو أحد أئمة العلل، ولكن التحسين عنده له معنى آخر، أو معاني أخرى، فليس هو في الجملة بالمعنى المشهور عند المتأخرين، وهو القسم الثاني من أقسام الأحاديث الصحيحة أو المحتج بها.
ولكن لا يصح أن ينتهي بك البحث إلى أن الترمذي كان أعلم من البخاري وأحمد وأضرابهما ولا إلى أن الترمذي ليس من أهل النقد ولا يحسن منه إلا شيئاً يسيراً، وأنه كثير الأوهام جداً في أحكامه وأن تساهله فيها مفرط عجيب.
والحاصل أنه لا يصح اصطلاحات العالم على معان غريبة بعيدة من أجل وصفه بالاعتدال ونحوه، ولا يصح أن يكون حمل اصطلاح العالم على معنى قريب أو مساو لمعنى الجمهور ذريعةً أو علة لوصفه بفحش التساهل أو قوة التشدد؛ مع أن المعروف عنه والثابت في حقه غير ذلك.
36 - بيان عدم صحة التكلف في إدعاء الترادف بين كلمتي الناقد:
مما ينبغي التنبه له: ضرورة العلم بعدم صحة التزام تفسير كلمة الناقد في راو معين بكلمة أخرى له فيه، لغرض دفع الاختلاف بين كلمتيه (أي حكميه) فيه؛ أي عدم صحة التزام القول بترادفهما؛ فقد يكون للناقد الواحد أكثر من كلمة في راو معين، وتلك الكلمات لا يجب أن تكون مترادفة، بل قد تكون متباينة فيكون له في ذلك الراوي أكثر من حكم؛ أو يكون قال فيه مرة كلمة تفيد أقوى درجات القبول أي القبول المطلق، وقال فيه مرة أخرى كلمة تفيد مطلق القبول، وبهذا يعلم أنه ليس من الصحيح أن نوجب على أنفسنا تفسير تلك الكلمات ببعضها، أو أن نجمع بين تلك الكلمات بدفع الاختلاف الواقع بينها وادعاء تقاربها.
37 - بيان أقسام اصطلاحات المحدثين من حيث عدد المعاني الاصطلاحية التي تحتملها:
إن الكلمات الاصطلاحية وما جرى مجراها نوعان:
النوع الأول: ما احتمل أكثر من معنى مثل كلمة (ثقة) فمنهم من لا يطلقها إلا على العدل الضابط التام الضبط، ومنهم من يطلقها عليه وعلى من خف ضبطه من العدول، ومنهم من يطلقها على كل عدل ضابطاً كان أم غير ضابط.
والنوع الثاني: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وذلك بموجب تعين حقيقته اللغوية وكونه مما لا يسوغ استعماله بمعنى آخر مخالف لتلك الحقيقة اللغوية ولو صار اصطلاحاً أو جرى مجرى الاصطلاح عند بعض أصحاب الفنون، وذلك مثل كلمة (وضع حديثاً) أو (كذاب) أو (يخطئ كثيراً). فينبغي ملاحظة ذلك.
38 - بيان أهم أسباب إيثار القدماء الكلمة ذات المعنى الواسع على غيرها:
ينبغي أن يعلم أن من تثبت العلماء قديماً إيثارهم في كثير من الأحيان الكلمة الواسعة إذا أدت المعنى المراد على الكلمة الضيقة المحددة، مثال ذلك: لفظة (لا يحتج به) من ألفاظ التجريح، وهي تطلق على كل من لا يحتج به سواء كان صالحاً للاستشهاد أم لا؛ ولكن من تحرى الدقة من النقاد فإنه يطلقها غالباً فيمن يستشهد به ولكن لا يحتج به.
فهي إذن من الكلمات التي تتسع لأكثر من معنى، وكان من شأن كثير من النقاد في كثير من الأحيان أن يؤثروا في عباراتهم مثل هذه الكلمات المرنة العريضة المعنى على ما ليس كذلك من الكلمات؛ ولذلك أسباب:
أولها: أن اللفظة كلما كانت أعم كان مجال الكلام أوسع، وكان المتكلم عن المعاني الحرجة والمسالك الضيقة أبعد؛ والسلف على مثل ذلك يحرصون ما كان فيه كفاية، فإن احتيج إلى البيان المحدد والتعيين الكامل صاروا إليه.
وكان ذلك جرياً منهم على طريقتهم في عدم الهجوم على ما لا يعلمونه وعدم الجزم بما لا يتحققونه، ووقوفاً منهم عند حدود معرفتهم ونهايات اطلاعهم، وهذا من كمال علمهم ووفرة إنصافهم رحمهم الله.
¥