وإذا عرفت هذا تبين لك أن مثل هؤلاء المعترضين مثل غر جال في الأسواق فصار كلما رأى شيئاً لم يشعر بفائدته أو لم تدع حاجته إليه عد وجوده عبثاً وسفه رأي عماله والراغبين فيه، وكان الأجدر به أن يقبل على ما يعنيه ويعرض عما لا يعنيه؛ وكأن كثيراً منهم يظن أن الاعتراض على أي وجه كان يدل على العلم والنباهة، مع أنه كثيراً ما يدل على الجهل والبلاهة.
ولا نريد بما ذكرنا سد باب الاعتراض على المؤلفين والمؤلفات بل صد الذين يتعرضون لذلك ببادىء الرأي لا غير، وإلا فالاعتراض إذا كان معقولاً لا ينكر بل قد يحمد عليه صاحبه ويشكر).
31 - بيان ضرورة التثبت وعدم التسرع في تحديد معاني المصطلحات:
إن السبيل إلى معرفة معاني الاصطلاحات عند المتقدمين هو الاستقراء التام المليء بالفطنة والنباهة وبقوة ملاحظة القرائن والاحتمالات والمستند إلى المقارنات والموازنات، مع استحضار المعنى اللغوي للكلمة في أثناء ذلك العمل كله، ومع الحذر مما خالف فيه المتأخرون المتقدمين في معاني اصطلاحاتهم.
32 - تنبيهات تتعلق بالمصطلحات المركبة أو المجموعة:
إذا ورد في العبارة جمع بين لفظتين اصطلاحيتين مثل (حسن صحيح) أو (حسن غريب)، و (ثقة صدوق)، و (صدوق فيه لين) و (صالح فيه ضعف)، و (صحيح مرفوع) و (عدل ضابط) فإنه لا يلزم أن يكون معنى كل لفظة من هاتين اللفظتين ضمن هذا الجمع هو معناها عند انفرادها، بل قد يظهر أن مدلول أحدهما أو كليهما قد تأثر بهذا التركيب، وأن هذا المركب ليس جمعاً بين اصطلاحين، أي أن معناه غير المعنى الحاصل من الجمع بين المعنيين الاصطلاحيين لتلك اللفظتين وإنما هو مصطلح واحد مركب دخل في تركيبه كلمتان اصطلاحيتان، وأن كلاً منهما قد حافظت ضمن هذا التركيب على أصل – أو بعض - معناها الاصطلاحي دون جميعه، والفصل في هذه المسائل يحتاج إلى الدراسة الاستقرائية الوافية.
33 - التذكير باحتمال اختلاف كلمات العالم باختلاف السياق:
لا بد، عند تفسير كلام العلماء، من ملاحظة ومراعاة دلالة السياق؛ فإن وجد للعالم كلام في بيان شروط قبول الرواية وتطرق فيه إلى معنى التدليس باختصار ووجد له كلام آخر في شرح معنى التدليس وحكم عنعنة المدلس على وجه التفصيل والتحرير، ووقع بين ظاهر العبارتين شيء من اختلاف فالصحيح حينئذ حمل ما في كلامه العام على ما في كلامه الخاص بالتدليس؛ فإن كلام العالم على المسألة في موضع تقريرها مقدم على ما ورد من كلامه فيها في أثناء تقرير مسألة أخرى غيرها.
وكذلك قوله في الراوي قد يكون في موضع مجملاً وفي آخر مفصلاً؛ فينبغي مراعاة ذلك لئلا يقع الوهم في استقراء معاني مصطلحاته.
34 - بيان وجوب تقديم الجمع بين كلمات الناقد ما أمكن، ولكن من غير تعسف ولا تكلف:
ينبغي حمل كلام الإمام في موطن على موافقة المواطن الأخرى ما أمكن؛ وذلك لندفع عنه التناقض والاختلاف ونحوهما؛ ولكن لا يصح المبالغة في ذلك؛ ولا بد في كل ذلك من مراعاة القرائن واعتبار الأحوال؛ فالناقد الذي يكثر كلامه ويتسرع في النقد قد يكون الأصل في حقه اختلاف أحكامه إلى أن يقوم دليل في حق بعض تلك الأحكام أن اختلاف عباراته كان لفظياً؛ والناقد الذي يكون كلامه في راو يعرفه جيداً قد يكون الأصل في حقه أن الاختلاف بين كلمات ذلك الناقد في حقه لفظياً، أو محمولاً على اختلاف المقام والمقصد ونحوهما مما يؤثر في طريقة النقد.
35 - بيان عدم صحة حمل كلام العالم على معنى يكون به مخالفاً للإجماع، إلا عند الاضطرار إلى ذلك؛ وضرورة الانتهاء إلى حكم تراعى فيه الموازنة وعدم التناقض بين مقتضى شرح الكلمة الاصطلاحية ومقتضى مرتبة الناقد ومنزلته في فنه:
لا يصح حمل كلام العالم على خرق الإجماع ما دام له محمل لا يخالف الإجماع؛ ومقتضى هذا أن لا يفسر اصطلاح المحدث تفسيراً يؤدي إلى أن يكون معنى كلامه الذي ورد فيه ذلك المصطلح مخالفاً للإجماع؛ ولو كان ذلك التفسير هو المعروف من معنى ذلك المصطلح، إلا إذا كان لا بد من ذلك الحمل، فيصار إليه.
ولا بد من التزام مراعاة الموازنة في أثناء البحث والاستقراء وفيما ينتهيان إليه؛ فلا يصح اعتبار ودراسة الألفاظ مجردة عن ملاحظة مرتبة الناقد ومنزلته بين أهل الفن، وقواعد فيه؛ ولا مجردة عن مراعاة أصل مرتبة الناقد ومنزلته بين العلماء.
¥