والثاني من أسباب استعمالهم المصطلحات والألفاظ التي تعم أكثر من معنى: أن يكون المقام مقام إجمال أو أنه لا يقتضي أكثر من التصريح بتلك الكلمة العامة.

والثالث: أن يكون بين الناقد وذلك الراوي نوع من الصلة أو العلاقة المانعة له – بسبب الحياء ونحوه - من التصريح بحقيقة حاله وسيء أوصافه كالاتهام بالكذب ونحوه، فيقتصر على ما يحصل به المطلوب في ذلك المقام، وهو بيان بطلان الاحتجاج به.

والرابع: أن تكون القرائن كافية في تعيين المعنى الدقيق لتلك الكلمة العامة.

والخامس: أن يكون الناقد ممن لا يفرقون بين أفراد من لا يحتج بهم لأنه لا يقول بتقوية الطرق الضعيفة بتعددها.

والسادس: أن يكون الناقد من أهل الورع الذين يجتنبون – إلا عند الحاجة – ذكر ما في الراوي من طعن شديد كالكذب ونحوه فيكتفي بالإشارة إلى إسقاطه بأخف الألفاظ وأبعدها عن احتمال الإثم.

مثال ذلك الإمام ابن المبارك رحمه الله؛ فقد كان من أهل الورع في النقد والتوقي فيه، ولعله لم يكن ليتكلم في أحد من الرواة إلا عند وضوح الحاجة إلى ذلك، ولذلك كان من مزاياه في نقده أنه كان فيه عف اللسان خفيف اللفظة، يكاد يستغني بالإشارة إلى جرح الراوي عن التصريح به، فإذا اقتضى أمر الدين وواجب النصح أن يجرح ويحذر لم يقصر، ولكن مقتصراً على موضع الحاجة، مع التزام الأدب والورع والتقوى والإنصاف.

قال عبد الله بن الإمام أحمد كما في ترجمة عبد السلام بن حرب من (ضعفاء العقيلي) و (تهذيب الكمال) (18/ 68) عن الحسن بن عيسى: سمعت عبد الله بن المبارك وسألته عن عبد السلام بن حرب الملائي، فقال: قد عرفته؛ وكان إذا قال: قد عرفته، فقد أهلكه).

وقال عبد الله أيضاً: قال أبي: وقيل لابن المبارك في عبد السلام؟ فقال: ما تحملني رجلي إليه).

وقال مسلم في مقدمة (الصحيح) (1/ 11): (وقال محمد [يعني ابن عببد الله بن قهزاذ]: سمعت علي بن شقيق يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف).

وقال مسلم (1/ 12): (وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاذ من أهل مرو قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى؛ قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه!.

وقال محمد حدثنا عبد الله بن عثمان قال: قال أبي: قال عبد الله بن المبارك: انتهيت إلى شعبة فقال: هذا عباد بن كثير فاحذروه).

وقال مسلم في مقدمة (صحيحه) (1/ 18): (حدثني أحمد بن يوسف الأزدي قال سمعت عبد الرزاق يقول: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله (كذاب) إلا لعبد القدوس، فإني سمعته يقول له: كذاب).

39 - بيان أنه ليس كل ما يقع من العلماء من اختلاف في ظواهر عباراتهم عن المسألة الواحدة يكون اختلافاً في الحقيقة:

من النافع بل الضروري: معرفة احتمال اتحاد المقاصد والمعاني مع اختلاف العبارات والألفاظ: قال العلامة طاهر الجزائري في (توجيه النظر) (1/ 38): وقد رأيت أن أذكر هنا فائدة تنفع المطالع في كثير من المواضع وهي أن مثل هذا يعد من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات وهو ليس من قبيل الاختلاف في الحقيقة كما يتوهمه الذين لا يمعنون النظر؛ فإنهم كلما رأوا اختلافاً في العبارة عن شيء ما سواء كان في تعريف أو تقسيم أو غير ذلك حكموا بأن هناك اختلافاً في الحقيقة، وإن لم تكن تلك العبارات مختلفة في المآل، وقد نشأ عن ذلك أغلاط لا تحصى سرى كثير منها إلى أناس من العلماء الأعلام فذكروا الاختلاف في مواضع ليس فيها اختلاف اعتماداً على من سبقهم إلى نقله ولم يخطر في بالهم أن الذين عولوا عليهم قد نقلوا الخلاف بناء على فهمهم، ولم ينتبهوا إلى وهمهم؛ وكثيراً ما انتبهوا إلى ذلك بعد حين فنبهوا عليه وذلك عند وقوفهم على العبارات التي بنى الاختلاف عليها الناقل الأول؛ وقد حمل هذا الأمر كثيراً منهم إلى فرط الحذر حين النقل، وقد أشار إلى نحو ما ذكرنا الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية في رسالته في قواعد التفسير فقال: الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015