(اعلم انه قد يقول المعدل: (فلان ثقة) ولا يريد به انه ممن يحتج بحديثه، ويقول: (فلان لا بأس به) ويريد انه يحتج بحديثه؛ وإنما ذلك على حسب ما هو [أي الناقد] فيه، ووجه السؤال له؛ فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره، وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا)؛ ثم أطال الباجي في التمثيل لتلك المعاني والاستدلال لها، إلى أن قال:
(فهذا كله يدل على أن ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض) إلى أن قال:
(وقد يحكم بالجرحة على الرجل بمعنى لو وجد في غيره لم يجرح به لما شهر من فضله وعلمه وان حاله يحتمل مثل ذلك).
وقال في ختام مبحثه هذا:
(فعلى هذا يحمل ألفاظ الجرح والتعديل من فهم أقوالهم وأغراضهم، ولا يكون ذلك إلا لمن كان من أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن؛ وأما من لم يعلم ذلك وليس عنده من أحوال المحدثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل، فإنه لا يمكنه تنزيل الألفاظ هذا التنزيل ولا اعتبارها بشيء مما ذكرنا، وإنما يتبع في ذلك ظاهر ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم واختلاف عباراتهم).
ومما مثل به الباجي لكلامه الأول جواب ابن مهدي في أبي خلدة؛ وقد تكلم العلامة المعلمي في (التنكيل) (ص261 - 262) على هذا الجواب فأتى بفوائد منها قوله:
(واصل القصة أن ابن مهدي كان يحدث فقال: حدثنا أبو خلدة، فقال له رجل: كان ثقة؟ فأجاب ابن مهدي بما مر، فيظهر لي أن السائل فخم كلمة ثقة ورفع يده وشدها بحيث فهم ابن مهدي أنه يريد أعلى الدرجات، فأجابه بحسب ذلك؛ فقوله (الثقة شعبة وسفيان) أراد به الثقة الكامل الذي هو أعلى الدرجات؛ وذلك لا ينفي أن يقال فيمن دون شعبة وسفيان: (ثقة)، على المعنى المعروف؛ وهذا بحمد الله ظاهر وإن لم أر من نبه عليه؛ وقريب منه أن المروذي قال: "قلت لأحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ قال: ما تقول؟ إنما الثقة يحيى القطان". وقد وثق أحمد مئات من الرواة يعلم انهم دون يحيى القطان بكثير).
أقول: فإذن قد يستعمل الناقد لفظة صدوق بمعنى لفظة ثقة، وإنما يعدل عن (ثقة) إلى (صدوق) لأن قرينة في السؤال أو في تصرف السائل أو في المجلس تقتضي منه ذلك العدول لأن كلمة ثقة حينئذ – أي في ذلك المجلس - معناها الثقة الثبت الحجة الحافظ، وهو قد سئل عمن هو ثقة غير مؤكد التوثيق فلا بد له حينئذ من استعمال كلمة صدوق أو ما يقوم مقامها؛ وبهذا يتبين أن جعل هذا المعنى الطارئ لكلمة صدوق معنى لازماً لها عند ذلك الإمام الذي استعملها لا يصح إلا باستقراء كاف أو نص عليه من ذلك الإمام نفسه أو ممن نظن أنه عنه أخذه – أي تلميذه – أو نص من كبار النقاد القدماء الذين هم عارفون به معرفة كافية فائقة.
هذا بعض ما يتعلق بالاختلاف في المعنى، ولكن لا نقول بأن كل اختلاف يظهر بين عبارات الناقد الواحد في الراوي الواحد يكون معنوياً؛ بل الواقع أنه قد يكون بعضه لفظياً؛ أي أن الناقد قد يستعمل في نقد راو واحد عبارتين متباينتين في معناهما بحسب ظاهرهما ولكنهما متطابقتان فيه بحسب ما عناه هو؛ مثل أن يستعمل إحدى العبارتين بمعناها عند الجمهور، ويستعمل الثانية بمعنى آخر غير معناها عند الجمهور ولكنه مقارب له ومساوٍ لمعنى العبارة الأولى.
وهذا الاحتمال مما ينبغي التنبه له والتفطن إليه، وهو يقضي بوجوب دراسة مصطلحات ومناهج العلماء على وجه الاستقراء والتدقيق والتفصيل.
وقد يكون في بعض الأحوال الاختلاف غير واقع من الناقد بل تكون كلماته في الرجل متحدة المعنى متطابقة ولكن أخطأ عليه من روى بعض تلك الكلمات عنه، كأن يكون كلامه في راو معين فيظن السامع أنه أراد راوياً آخر يشاركه في اسمه فينقل كلامه على أنه في ذلك المتوهَّم مع أن ذلك الناقد له في هذا المتوهم حكم مغاير فيحصل بحسب النقل اختلاف في حكمه على راو واحد ((6)).
¥