(فمن أئمة الجرح والتعديل بعد من قدمنا: يحيى بن معين، وقد سأله عن الرجال عباس الدوري وعثمان الدارمي وأبو حاتم وطائفة، وأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهاده. ومن ثَم اختلفت آراؤه وعباراته في بعض الرجال، كما اختلفت اجتهادات الفقهاء المجتهدين، وصارت لهم في المسألة أقوال).

قلت: وأكثر النقاد اختلافاً في أحكامهم على رواة بأعيانهم هم أكثر النقاد اجتهاداً في الرواة وأكثرهم كلاماً فيهم وأكثرهم فيما يوجه إليهم من أسئلة عنهم؛ ومن هذا الصنف ابن معين ثم الدارقطني.

أن يسأل الناقد مرة عن الراوي وحده ثم يسأل عنه في وقت آخر مقروناً بمن هو فوقه أو دونه في القوة، قال ابن حجر في بذل الماعون في فضل الطاعون وهو يذكر حال بعض الرواة ((3)):

(وقد وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد والدارقطني ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه ضعفه فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعمن فوقه فضعفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة فيمن اختلف النقل عن ابن معين فيه؛ نبه عليه أبو الوليد الباجي في كتابه (رجال البخاري) ((4)). وانظر التنكيل (ص260 - 262) ولسان الميزان (1/ 28) وفتح المغيث (1/ 374 - 375) وتراجم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة وموسى بن عقبة في الفصل التاسع من (مقدمة فتح الباري).

أن يكون أحد الحكمين المختلفين حكماً نسبياً والآخر حكماً كلياً، والحكم النسبي قد يخالف الحكم الكلي، ومن أمثلة الحكم النسبي الحكم على الراوي بالنسبة إلى مروياته عن بعض شيوخه أو بالنسبة إلى ما رواه عنه بعض تلامذته أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو من كتابه أو قبل اختلاطه أو بعده، ويكون الناقد قد أطلق الحكم ولم يقيده. ولكن لا شك أن هذا نادر لا يكثر ((5)). قال المعلمي في (التنكيل) (ص254 - 255) بعد ان ذكر خلاصة المعنى الذي ذكره الباجي في أسباب اختلاف كلمات الناقد في الراوي:

(ومما يدخل في هذا الباب انهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك----).

أن يكون أحد قولي الناقد في ذلك الراوي صادراً على غير سبيل الحكم، قال الشيخ المعلمي في (التنكيل) (ص241):

(وقد يتسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبرِ من لا يعدّ خبره حجة وقرينةٍ لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك----).

أن يكون أحد حكمي الناقد غير متأثر بغير حال الراوي في الرواية ويكون الحكم الآخر متأثراً بحال السائل أو المجلس أو غير ذلك؛ مثل أن يكون السائل مشدداً في سؤاله فيظهر أثر ذلك على جواب من سأله، أخرج الترمذي كما في (شرح علله) لابن رجب (1/ 395 - 396) عن علي ابن المديني قال:

(سألت يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو بن علقمة؟ فقال: تريد العفو أو تشدد؟ فقلت: لا، بل أشدد، فقال: ليس هو ممن تريد، كان يقول: أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب).

وقال الخطيب في (الكفاية) (ص109):

(ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وان لم يكن الذي سمعه موجبا لرد الحديث ولا مسقطا للعدالة ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله ذلك على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينزله من نقل عنه منزلته، فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز؛ ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بانفراده حتى ينظر هل له من أخوات ونظائر فان أحوال الناس وطبائعهم جارية على إظهار الجميل وإخفاء ما خالفه فإذا ظهر أمر يكره مخالف للجميل لم يؤمن أن يكون وراء شبه له ولهذا قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الحديث الذي قدمناه في أول باب العدالة من أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال ان سريرتي حسنة).

وقال الباجي في (التعديل والتجريح) (1/ 283 - 288):

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015