هذه طريقة المناطقة أو هذه غايتهم؛ ولكن مصطلحات المحدثين لم توضع وضعاً منطقياً، أعني لم توضع على طريقة المناطقة، وإنما وضع أكثرها – ولا سيما المصطلحات القديمة منها – وضعاً عفوياً فطرياً؛ استعملوا الألفاظ والتراكيب استعمالاً لغوياً أو استعمالاً قريباً جداً من المعنى اللغوي بحيث يفهم السامع الفطن من أهل ذلك الفن المقصود من ذلك التعبير إما بمجرد سماعه، أو بتكرر استعماله أو بقرائن تحفه؛ وهكذا نشأت مصطلحات المحدثين.

إن تعابير القدماء الاصطلاحية كان فيها من السعة والمرونة ما يجب عند إرادة فهمها أو بيان معانيها: التنبه له وعدم إغفاله، وكان فيها - بسبب ذلك أو غيره - من التداخل الجزئي والاشتراك النسبي ما لا يستقيم إهماله.

نعم، لقد وضعوا اصطلاحات هذا الفن وكان فيها من البساطة والوضوح والسعة وقلة التكلف والقرب من المعنى اللغوي ما لا يخفى؛ ولذلك وقع بين بعضها من التداخل والتقارب أحياناً أو التباين والتباعد أحياناً أخرى ما هو جار بمقتضى السجية وطبيعة اللغة وعرف التخاطب، والسياقات والقرائن تبين المراد وتحدده؛ ولم يكن في ذلك من إشكال قادح في فنهم أو مانع من فهم مقاصدهم لمن سار وراءهم واقتفى آثارهم.

ولكن لما جاء المتأخرون وكان أكبر همهم استعمال اصطلاحات محددة تحديداً كاملاً غير متداخلة فيما بينها لا في قليل منها ولا في كثير غيروا معاني كثير من المصطلحات عند شرحهم إياها وبيانهم لها ووضعوا فيها من الزيادات والنقصان ما يحقق لهم تلك الغاية، وربما وجدوا من ظواهر كلمات بعض القدماء ما تشبثوا به وجعلوه مستنداً لبعض تلك التصرفات الضارة المردودة.

وهؤلاء غفلوا أو تغافلوا عن مسألة خطيرة، وهي أنه ليس من الصحيح أن نحاكم صنيع القدماء واصطلاحاتهم إلى قواعد وضوابط المنطقيين، أو نحملها على حدود وتعريفات المتأخرين، إذا خالفت هذه تلك؛ ثم نقول إنهم – أي المتقدمين – تجوزا أو لم يراعوا الاصطلاح أو نحو ذلك؛ أو نقول: ليكن هذا المصطلح خاصاً بكذا وهذا المصطلح الآخر خاصاً بكذا لتتميز الأنواع وتنضبط القسمة.

بل كان على المتأخرين فهم اصطلاحات أسلافهم والسير وراءهم فيها.

ولكن لما لم يرتض كثير من المتأخرين ذلك أو لم يوفقوا إليه، وصارت لهم في بعض أبواب هذا الفن اصطلاحات تختلف قليلاً أو كثيراً عن اصطلاحات أهل الاصطلاح، أعني المتقدمين من المحدثين، فهنا يقول القائل: لا نشاحكم أيها المتأخرون فيما اصطلحتم عليه ولكن بينوا اصطلاحكم البيان الكامل الوافي وانسبوه لأنفسكم وحدكم لا للقدماء ولا لعامة المحدثين وصرحوا بتلك النسبة ليزول الإيهام الحاصل بإغفالها، وافهموا مصطلحات القدماء واعلموا ما بينها وبين مصطلحاتكم من فرق وتفاوت، وبينوا ذلك لطالبيه؛ وإن كان ذلك لا يكفي أيضاً لأن فيه توعيراً لطريق العلم وتعقيداً لمشكلات الطلب.

وفي الجملة يجب الحذر من انحرافات المتأخرين في فهم اصطلاحات المتقدمين، فإن كثيراً من المتأخرين غلب عليهم التقليد والجمود والتأثر بالنظرة المنطقية الرياضية إلى اصطلاحات العلماء وعباراتهم، ومحاكمة المتقدمين إلى المتأخرين وقياس ألفاظ الأوائل على ألفاظ الأواخر، وتوحيد معاني المصطلحات، فوقع بسبب ذلك من الأوهام والتخليطات فوق ما يظنه غير المتبحر في هذا العلم العظيم. فإنه وإن كانت صناعة التعريفات المنطقية بذاتها ليست جرماً لا يقترب، إلا أن التنطع والتكلف الذي بنيت عليه لا يناسب كثيراً لغة ومقاصد مؤسسي علم النقد الحديثي الذي منَّ الله عليهم بعدم معرفة المنطق وعدم الاقتراب - فضلاً عن الخوض - في الفلسفة.

إذن لا يلزم من تكلم على مصطلحات المحدثين أو ألف فيها أن يتكلف في كلامه وتعريفاته الدقة المعقدة والتعمق البعيد؛ ولا يقبل منه في شرحها كثرة الإيرادات والتدقيقات والمناقشات والمجادلات في الحدود والتعريفات والألفاظ والعبارات، فإن ذلك كان ولم يزل من أضر المسائل على أهل العلم وأقوى الأمور التي وعرت طريق المعرفة على الناس وكان الاشتغال الزائد بذلك كله سبباً في التقصير في تحقيق القواعد وفي استقراء ما يكون سبباً في التوصل إلى العلم النافع الصحيح.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015