إذن فليس من الصحيح أن تفسر تلك المصطلحات بحسب طريقة المناطقة، ولا حتى بطريقة تراعي منهج المحدثين من جهة ومنهج المناطقة من جهة أخرى؛ كما هو صنيع كثير من المتأخرين.
بل تفسر بحسب ما يظهر أنه يبين مقاصد أهلها؛ أهل المنطق يحرصون على أن تكون اصطلاحاتهم خالية من التداخل والاشتراك وأن يكون لها معنى واحد مستقر ولهم شروط أخرى غير هذه؛ كما تقدم؛ وليس كذلك شأن مصطلحات المحدثين.
قال الدكتور حاتم العوني في (المنهج المقترح) (ص165): (وإذا كانت صناعة المعرِّفات المنطقية أجنبية عن مصطلح الحديث وتباينه في نَسبها (العربي) وسَحْنَتِها (اليسر والبعد عن التكلف) فلن يكون في تسليط معاييرها عليه – في الغالب – إلا جورٌ عليها: بتحجير واسعها، أو توسيع ضيقها. وفي أقل الأحوال: أن تطوِّل الطريق إلى معرفة الصواب، بما أشار إليه شيخ الاسلام من كثرة الاعتراضات على المعرِّفات وتسويد الصفحة والصفحات في ذلك؛ مع أنهم يزعمون أنهم يسعون للتعريف المختصر المحرَّر بالجمع والمنع، وينتقدون التعريف المطول بالشرح والمثل. فلو أنهم كتبوا تعريفاً في نصف صفحة، يقوم بالمقصود، ألم يكن خيراً من تلك الصفحة أو الصفحات من الاعتراضات، التي لا تخرج معها بطائل؟!!
وهذا كله أمر خطير خاصة ما يقع خطأ دون قصد من بعض المصنفين في بعض العلوم كعلم الحديث، بسبب تأثرهم بصناعة المعرِّفات المنطقية: من تضييق الواسع من مدلولات المصطلحات، أو توسيع الضيق منها، كما قلناه آنفاً، لأن ذلك سوف ينعكس بتشويش ذلك العلم الذي يتكون من تلك المصطلحات، تشويشاً قد يؤدي إلى استغلاق فهْمه، أو فهْمه على غير فُهومه، أو ظهور تناقض فيه، أو بانقلاب قواعده وضوابطه، إلى غير ذلك، مما قد يصْعب حله وتجاوزه إلا بإعادة النظر في معاني تلك المصطلحات؛ لكن الأخطر من ذلك كله، والكارثة التي قد تدمر ذلك العلم: فيما لو أصبح ذلك الخطأ في تفسير المصطلحات عَمْداً، وفيما لو صار المصنفون في ذلك العلم يسْعَون إلى تغيير مدلولاتها قصداً، ثم إلى اختراع أسماء جديدة (تضاهي المصطلحات) لمدلولات كانوا قد أخرجوها - هم – من مصطلحات العلم الأصلية! ليُظن بعد ذلك أن تلك الأسماء من مصطلحات ذلك العلم، ولتبعد الشقة – بعدها – أكثر عن فهم تلك المصطلحات على وجهها، وليكون – أخيراً – ذلك العلم المركب من تلك المصطلحات لُغْزاً مستغلِقاً، دون حله خنادق وحصون!!
وهذا ما قد بدأ بالوقوع فعلاً في مصطلحات الحديث!!! وقد بدأ من قرون لكنه لم يزل – بحمد الله – في البداية!!! وهذا هو ما سميته – اصطلاحاً مني – بـ (فكرة تطوير المصطلحات) 000 فأنا أعني بفكرة تطوير المصطلحات: (تغيير معاني المصطلحات عما كانت تعنيه عند أهل الاصطلاح عمداً، لأي عرض يظنه ذاك المغير حسناً).
و (أهل الاصطلاح): هم الذين أنشأوا ذلك العلم، ووضعوا قواعده وضوابطه وتواضعوا على أسماء لأفراده (وهي المصطلحات)، وتتموا بناء علمهم. فلم يبقَ لمن جاء بعدهم إلا تلقي هذا العلم عنهم، وأخْذ معاني مصطلحاته منهم، ليفهم علمهم ويَعِيَ قولهم. فإذا أقبل هذا الذي جاء بعدهم على علمهم بالتبديل، وتغيير مدلولات المصطلحات، لا مع إعلان أن تلك المعاني الجديدة من عند نفسه وأنها اصطلاح خاص به، بل على أنها اصطلاح أهل الاصطلاح = فهل سيكون لنا طريق إلى فهم ذلك العلم باعتماد كلام ذلك المبدِّل المغيرِّ؟!
فأعود مؤكداً: (فكرة تطوير المصطلحات) متعلقة بتغيير المعاني، مهما كان ذلك التغيير يسيراً، ومهما كان الغرض منه حسناً عند القائل به.
هذا الذي أحذر منه! أما تطوير حدود المصطلحات ورسومه، تطويرَ ألفاظٍ لتلك التعاريف، لا يصل إلى تغيير مدلول المصطلح = فليس على هذا محظور، ولا هو من (فكرة تطوير المصطلحات) التي أحذر منها، بل هذا التطوير الذي يَقْصِد إلى تحرير التعريفات بالجمع والمنع، أمر حسن في حدود ما لم يبلغ بنا إلى درجة التنطع والتكلف الذي يعانيه المناطقة؛ ونحن عنه في غنى. وحتى إن بلغ درجة التنطع والتكلف، فليس من (فكرة تطوير المصطلحات) في شيء، ما دام أن الأمر لم يصل إلى محاولة تغيير معاني المصطلحات». انتهى كلامه.
8 - بيان أفضلية منهج المتقدمين في وضع المصطلحات على منهج المتأخرين:
¥