علم مصطلح الحديث ـ كسائر العلوم ـ ينبني في أصله على مجموعة من القواعد ويُستعمل فيه جملة كبيرة من المصطلحات.

وقواعد كل علم هي لبه وحقيقته وجوهره، وهي المعنى المطلوب لذاته والأصل الأول الذي تنشأ منه كل فروع ذلك العلم وثمراته.

وأما مصطلحاته فإنما وضعت تيسيراً للتعبير، وتحرياً للدقة، واختصاراً للقول؛ وهي – كما هو واضح أصلاً أو مما تقدم – لا تُطلبُ معرفة معانيها لذاتها، وإنما يضطر طالب علم الحديث إلى معرفة معانيها، لأنها دخلت في لغة القوم فدارت على ألسنتهم وتكرر استعمالها في مؤلفاتهم، يدخلونها في تعبيرهم عن قواعدهم الكلية والجزئية وأحكامهم الفرعية ونحو ذلك؛ فمن لم يعرفها لن يعرف قواعدهم بل لن يتمكن من مشاركتهم في علمهم أصلاً؛ وكذلك من عرفها ولكنه لم يتقنها ولم يتمكن منها فإنه يظل فهمه لهذا العلم قاصراً مختلاً ونصيبه من التحقيق فيه ناقصاً معتلاً.

فكما لا يمكن لأحد من الناس فهم مرادات المحدثين في هذه الكتب التي صنفوها بدون معرفة لغتهم الكبرى ـ أعني العربية ـ فكذلك يتعذر على العربي – ولو كان عارفاً باللغة – الفهم – أو الفهم الصحيح – لكثير من مراداتهم ما لم يكن عالماً بمعاني مصطلحاتهم؛ وهي جزء مهم، بل ركن ركين، من لغتهم.

والحاصل أن من أراد أن يطلب علم أصول الحديث لن يستغني – سواء كان يروم التبحر والتخصص أم يريد مجرد الاطلاع وأصل المشاركة – عن معرفة معاني مصطلحات أهل هذا الفن وما تعارفوا عليه من ألفاظهم وعباراتهم.

4 - بيان سبب وضع المصطلحات الحديثية:

إن الذي دعا المحدثين إلى وضع المصطلحات الحديثية هو حاجتهم إلى تسهيل بيانهم وتقريب مقاصدهم واختصار تعابيرهم كما فعل غيرهم من أرباب العلوم والفنون الدينية والدنيوية.

5 - بيان تاريخ نشأة المصطلحات الحديثية:

بدأت المصطلحات بداية ظاهرة واضحة في عهد التابعين. وكانت في أول أمرها قليلة في عددها ثم لم تزل تلك المصطلحات في تكاثر وازدياد إلى عصر ابن الصلاح، ثم كأنها بعدئذ توقفت بتصنيفه لكتابه المشهور بمقدمة ابن الصلاح. ثم ظهرت منذ بدء عصر الطباعة والنشر والتحقيق مصطلحات جديدة تتعلق بنشر كتب الحديث وتصحيحها والتعليق عليها وخدمتها.

6 - بيان كيفية وضع المصطلحات الحديثية:

إن المتقدمين من علماء الحديث عندما وضعوا أي مصطلح من مصطلحاتهم لم يجتمعوا كلهم أو الأئمة منهم في وقت وضع ذلك المصطلح ليتفقوا على معنى واحد محدد له؛ بل كان الامام منهم يضع لنفسه مصطلحاً فيشرحه في كتابه أو في كلامه أو يكرره بطريقة تجعله معلوم المعنى من قرائن السياق وشواهد المقام.

ثم إنهم لم يكونوا في وضع المصطلحات يحرصون على مراعاة طريقة المناطقة - ومن تأثر بهم من المتأخرين - من شدة الالتزام بتقسيم المعاني تقسيماً لا لبس فيه ولا اشتراك ولا تداخل، ثم وضع اسمٍ اصطلاحيٍ خاص بكل قسم ويكون معبراً تعبيراً دقيقاً عن معنى ذلك القسم؛ بل اصطلاحات المتقدمين كانت جارية على السليقة موافقة للفطرة متناسبة مع الواقع، قريبة في معانيها الاصطلاحية من المعاني اللغوية؛ وانظر التنبيه التالي.

7 - بيان الفرق في وضع أو شرح الاصطلاحات بين طريقة المناطقة ومن تأثر بهم وبين طريقة أهل الحديث:

أما المناطقة - ومن أثرت طريقته فيهم - فيحرصون في وضع المصطلحات، على أمور مهمة عندهم؛ ولقد تسرب أثر هذا الحرص إلى شرحهم لمصطلحات غيرهم؛ وأولى تلك الأمور بالذكر ما يلي:

الأول: كمال تخصيص أو تقسيم المصطلحات؛ فيحرصون على أن يجعلوا لكل معنى في الفن الذي يتكلمون فيه اسماً يخصه، وأن يجعلوا لكل اسم معنى يخصه، بحيث تكون الألفاظ مفصلة على المعاني وموزعة عليها ومستوعبة لجميعها، بلا تداخل ولا اشتراك ولا إجمال ولا عموم؛ وهذا مطلب لا يوجد إلا في خيال المناطقة وتصوراتهم التي ليس لها في الواقع نظير ولا مثال.

الثاني: توحيد معاني الاصطلاحات؛ أي هم يقولون بتساوي معاني اللفظة الاصطلاحية الواحدة عند جميع أهل ذلك الفن.

الثالث: حمل كثير من الكلمات اللغوية على معاني اصطلاحية.

الرابع: المبالغة في تكثير المصطلحات بلا حاجة، والحرص على تقسيمها تقسيماً منطقياً، ولو بتكلف، وتحديدها، كذلك.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015