فأقول: بل فيه ما يلزمك، فانظر مثلاً في الدليل التاسع، وهو ذهاب معاذ بن جبل t إلى اليمن، فإنه ذهب يُعلِّمُ الناس العقيدة، وهذا واضح من قوله r : " فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، فلو أعرض عنه رجلٌ من أهل الكتاب وأبى أن ينصاع له ومات، فإنه كافرٌ لا خلاف في ذلك لوصول البلاغ إليه، فإن المسلمين لا يختلفون في أن مسلماً ثقةً عالماً لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازماً لهم قبوله، ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة، وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولاً إلى ملك من ملوك الكفر، أو إلى أمة من أمم الكفر يدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين

ولا فرق، وما قال مسلمٌ قطٌ إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه الصلاة والسلام إلى كل ناحية معلماً ومفتياً ومقرئاً: نعم أنت رسول الله r ، وعقدُ الإيمان عندنا حقٌ، ولكن ما أفتيتنا به وعلمتناه من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي r ، وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه الصلاة والسلام فلا نقبله منك، ولا نأخذه عنك؛ لأن الكذب جائزٌ عليك، ومتَوَهَمٌ منك حتى يأتينا لكل ذلك كوافٌّ وتواتر. بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين، كما قال ابن حزم في "الإحكام" (1/ 112).

ثم إن الشافعي رحمه الله ـ كما في الدليل العشرين ـ احتج بخبر الواحد في مسألة علمية غيبية، وليست حكماً شرعياً.

واعلم أنه لا يُعلمُ في السلف قطٌ أحدٌ قال: إن خبر الواحد لا يُحتجُ به العقيدة، إنما قال ذلك بعض المتأخرين من أصحاب الكلام الذين لا عناية لهم بالسنة النبوية، وتبعهم في ذلك بعض الأصوليين. ونحن نطالب الأستاذ أن يأتي بنقلٍ صحيحٍ عن أحد الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو أحد الأئمة المتبوعين فرَّقَ هذا التفريق، ولن يجد إليه سبيلاً.

وقد قال ابن حزم في "الإحكام" (1/ 118): "وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم أجمعين وجوب القول بخبر الواحد ... ".

وقد ختم الشافعي رحمه الله بحثه النفيس في تثبيت خبر الواحد وأنه حُجَّةٌ بقوله في "الرسالة" (ص 453): "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديثُ يكفي بعضُ هذا منها. ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل، وكذلك حُكي لنا عمن لنا عنه من أهل البلدان". أهـ وقال أيضاً (ص 357): "ولو جاز لأحد الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحدٌ إلا وقد ثبَّته ـ جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفته من أن ذلك موجودٌ على كُلِّهم". أهـ

وخلاصة القول: أنه لا يُعلم أحدٌ يُقتدىَ به من السلف فرق هذا التفريق الباطل، بل كانوا يأخذون بخبر الواحد في المسائل العلمية والعملية، بغير تفريقٍ بينهما.

وقال ابن القيم رحمه الله في "مختصر الصواعق" (2/ 412): "وهذا التفريق باطلٌ بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات، كما تحتج به في الطلبيات العمليات، ولاسيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله تعالى بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعُهُ ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحدٍ منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله تعالى وأسمائه وصفاته فأين سلف المفرقين بين البابين؟!

نعم، سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ويُحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين، فهُمُ الذين يُعرف عنهم التفريق بين الأمرين فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية وسموها: أصولاً وفروعاً وقالوا: الحق في مسائل الأصول واحدٌ ومن خالفه فهو كافرٌ أو فاسقٌ وأما مسائل الفروع فليس لله تعالى فيها حكمٌ معينٌ، ولا يُتصور فيها الخطأ، وكل مجتهد مصيب لحكم الله تعالى الذي هو حكمه، وهذا التقسيم لو رجه إلى

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015