مجرد الاصطلاح لم يتميز ... قال: وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعاً عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين. وهذا عادةُ أهل الكلام، يحكون الإجماع على ما لم يقله أحدٌ من أئمة المسلمين، بل أئمة المسلمين على خلافه ... ثم قال: فنطالبهم بفرقٍ صحيحٍ بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الذين وما لا يجوز، ولا يجدون إلى الفرق سبيلاً إلا بدعاوٍ باطلة ... ثم قال: (ص 420): فقال بعضهم: الأصوليات هي المسائل العلميات، والفروعيات هي المسائل العملية، والمطلوب منها أمران: العلم والعمل، والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضاً، وهو حب القلب وبغضه، وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته، وبعضه للباطل الذي يخالفها، فليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصلٌ لعمل الجوارح، وعمل الجوارح تبعٌ. فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب، وتصديقه وحبه، ذلك عمل، بل هو أصل العمل، وهذا مما غفل عنه كثيرٌ من المتكلمين في مسائل الإيمان، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه، فإن كثيراً من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي r غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق ـ وهو عمل القلب ـ من حب ما جاء به، والرضا وإرادته، والموالاة والمعاداة عليه، فلا تمهل هذا الموضع فإنه مهمٌ جداً، به تعرف حقيقة الإيمان، فالمسائل العلمية عملية، والمسائل العملية علمية، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل". أهـ
* قُلتُ: وهذا كلامٌ يوزنُ مثله بالذهب، فكيف به! وهو شجىً في حلوق المخالفين، والحمد لله ربٌ على حسن توفيقه.
وإن الناظر إلى جيل الصحابة، وكان عنده دراية بأحوالهم يعلم علماً ضرورياً أن هذا التفريق لم يكن عندهم البتة، ولعله لم يخطر ببال واحدٍ منهم، فإن هؤلاء الصحابة "كانوا يجزمون بما يُحدِّث به أحدهم عن رسول الله r ولم يقل أحدٌ منهم لمن حدثه: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر ... وكان حديث رسول الله r أجلَّ في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقولوا مثل ذلك. وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله r في الصفات تلقاه بالقول، وأعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين كما اعتقد رؤية الرب، وتكليمه، ونداء الرب يوم القيامة بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة، وضحكه وفرحه وإمساكه سماواته على إصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له، من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله r ، أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يَرْتَبْ فيها، حتى إنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر، كما استظهر عُمر t برواية أبي سعيد الخدري على خبر أبي موسى، وكما استظهر أبو بكر t برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدَّةِ، ولم يطلب أحدٌ منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة، بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها، والجزم بمقتضاها، وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله r ، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مئة موضع .. فهذا الذي اعتمده نُفاة العلم عن أخبار رسول الله r خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلفٌ من الأئمة بذلك، بل صرح الأئمة بخلاف قولهم"،
وانظر "مختصر الصواعق" (2/ 361 - 362) وما ذكرته كفايةٌ في الإجابة
عن الأمر الأول.
أما الوجه الثاني:
قوله: "إن خبر الواحد لا يفيد اليقين، بل الظن الراجح وهذا واضحٌ من قوله: "أما الزعم بأن خبر الواحد يفيد اليقين كالأخبار المتواترة، فهي مجازفة مرفوضة".
¥