"والذي ذهب إليه الشافعي من المعنى في هذا الباب صحيحٌ جليلٌ، يُنبئ عن نظر ثاقب، وفهم دقيق، وعقل درَّاك لروح الإسلام ومقاصده، وأول مقصد للإسلام، ثم أجلُّه وأخطرُهُ: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غاية واحدة .. وهي إعلاء كلمة الله وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية، والمعنى الروحي في هذا اجتماعهم على الصلاة، وتسوية صفوفهم فيها أولاً، كما قال رسول الله r : " لتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"، وهذا شيء لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين، والغوص على درره، والسمو إلى مداركه، كالشافعي وأضرابه، وقد رأى المسلمون بأعينهم آثار جماعتهم في الصلاة

واضطراب صفوفهم، ولمسوا ذلك بأيديهم، إلا من بطلت حاسته وطُمِسَ على بصره، وإنك لتدخل كثيراً من مساجد المسلمين فترى قوماً يعتزلون الصلاة مع الجماعة ـ طلباً للسنة كما زعموا ـ ثم يقيمون جماعات أخرى لأنفسهم، ويظنون أنهم يقيمون الصلاة بأفضل مما يقيمها غيرهم، ولئن صدقوا لقد حملوا من الوزر ما أضاع صلاتهم، فلا ينفعهم ما ظنوه من الإنكار على غيرهم قي ترك بعض السنن أو المندوبات، وترى قوماً آخرين يعتزلون مساجد المسلمين، ثم يتخذون لأنفسهم مساجد أخرى، ضراراً وتفريقاً للكلمة، وشقاً لعصا المسلمين، نسأل الله العصمة والتوفيق، وأن يهدينا إلى جمع كلمتنا، إنه سميع الدعاء.

وهذا المعنى الذي ذهب إليه الشافعي لا يعارض حديث الباب، فإن الرجل الذي فاتته الجماعة لعذرٍ، ثم تصدق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصلاة معه ـ وقد سبقه بالصلاة فيها ـ هذا الرجل يشعر في داخلة نفسه كأنه متحدٌ مع الجماعة قلباً وروحاً، وكأنه لم تفته الصلاة. وأما الناس الذين يُجمِّعون وحدهم بعد صلاة جماعة المسلمين فإنما يشعرون أنهم فريق آخر، خرجوا وحدهم، وصلوا وحدهم.

وقد كان من تساهل المسلمين في هذا، وظنهم أن إعادة الجماعة في المساجد جائزة مطلقاً أن فشت بدعةٌ منكرةٌ في الجوامع العامة، مثل الجامع الأزهر والمسجد المنسوب للحسين عليه السلام وغيرهما بمصر، ومثل غيرهما في بلاد أخرى، فجعلوا في المسجد الواحد إمامين راتبين

أو أكثر، ففي الجامع الأزهر ـ مثلاً ـ إمام للقبلة القديمة، وآخر للقبلة الجديدة، ونحو ذلك في مسجد الحسين عليه السلام، وقد رأينا فيه

أن الشافعية لهم إمامٌ يصلي بهم الفجر في الغلس، والحنفيون لهم آخرٌ يصلي الفجر بإسفار، ورأينا كثيراً من الحنفيين من علماء وطلاب

وغيرهم ينتظرون إمامهم ليصلي بهم الفجر، ولا يُصلون مع

إمام الشافعيين والصلاة قائمة، والجماعة حاضرة، ورأينا فيهما

وفي غيرهما جماعات ُقام متعددة في وقتٍ واحدٍ، وكلهم آثمون،

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بل قد بلغنا أن هذا المنكر كان في الحرم المكي، وأنه كان يُصلي فيه أئمة أربعة، يزعمون للمذاهب الأربعة، ولكنا لم نر ذلك، إذ أننا لم ندرك هذا العهد بمكة، وإنما حججنا في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وسمعنا أنه أبطل هذه البدعة، وجمع الناس في الحرم على إمام واحدٍ راتبٍ، ونرجو أن يوفق الله علماء الإسلام لإبطال هذه البدعة من جميع المساجد في شتى البلدان، بفضل الله وعونه، إنه سميعٌ مُجيبُ الدعاء". انتهى

* قُلتُ: فلو وقع في مجتمع من الناس، ما خشي منه الشافعي، فلا شك في كراهية الجماعة الثانية، ولكن أين زماننا من زمن أسلافنا، وحيث كان الإسلام هو الحاكم، ورأبته تظلل الممالك والدول، ويمشي الفرد بأمان الإسلام، أما في زماننا فقد أطلت البدعُ علينا من كل صوب وتهجموا على مصادرنا الأصلية، وأظهروا عُوارَها ـ زعموا ـ حتى بلغ السيل الرُّبى، والله المستعان. لكن ـ كما قُلتُ لك ـ قلَّ من يلحظ المعنى الذي خشيَّ الشافعي مغبته.

أما العلة الثانية التي وقعت في كلام الشافعي رحمه الله، وأسس عليها حكمه بكراهة الجماعة الثانية، فهي قوله: "وإنما كرهت ذلك لهم لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا". انتهى

ولا شك أن التعليل بهذا قويٌ ومؤثرٌ، لكننا وجدنا من السلف قبلنا من فعل هذا، وقد نص الترمذي على ذلك فقال: "وهو قولُ غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي r وغيرهم من التابعين". انتهى

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015