وكأن الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى قد سلك في كتابه العجاب ((شرح علل الترمذي)) هذه الطريقة باستقراء كتب المتقدمين، و البناء على تصرفات الأئمة، و تنزيل أقوالهم في حال توهم اختلافها منازلها، التي ربما تختلف صورها فيحصل من ذلك، أن قول كل واحد منهم وارد في سياقٍ معين لا يخالف قول الناقد الآخر الذي ورد كلامه في سياقٍ آخر؛ فلا يُحكم بقول أحدهم في مسألة على قول ناقد آخر في مسألة أخرى.

ومما يثير الانتباه في ((شرح علل الترمذي)) أن الحافظ ابن رجب لم يذكر ابن الصلاح رحمه الله إلا في ثلاثة مواضع فقط ‍‍‍‍! [14]. وإنما كان اعتماده على كتب المتقدمين وأقوال النقاد وسؤالات الحفاظ؛ مما جعل كتابه يبدو وكأنه قد كتب في القرن الثالث أو الرابع وهو قد ظهر في القرن الثامن!.

ولذلك فإن قول بعضهم: ((إن علم الحديث والفقه نَضِجَ واحترق)) قول من لم يخض في هذا الغمار، و حَسِب لُجَّةً ذلك التيار! [15].

قال العارف أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد زَرُّوق رحمه الله تعالى: ((ولله در ابن مالك حيث يقول: إذا كانت العلوم مِنَحاً إلهية، ومواهب اختصاصية؛ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين .. نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. انتهى، وهو عجيب)) [16].

أقول مستعيناً بالله تعالى: إن تأصيل مصطلح (مدار الإسناد) و (المخرج) مما منَّ الله تعالى به على عبده الضعيف، فلم أجد من أفرده من قبلُ، أو لفتَ الأنظار إلى ضرورة فهم علوم الحديث من خلاله، وأن ذلك من أسرار ما يجده المشتغل بالحديث من فرق بين المتقدمين و المتأخرين، ثم المعاصرين. فبمنظار مسألة (مدار الإسناد) كتبتُ هذه الرسالة في علم العلل: فذكرتُ وسائل معرفة العلة، وذلك في الباب الثاني، وكيفية إدراك العلل:

1_ من تفرد الراوي بالحديث، وهو الذي يكون مداراً لأسانيد حديث، وذلك في الباب الثالث.

2_ أو مخالفته لغيره، وهؤلاء هم أصحاب المدار الذين رووا عنه الحديث، وذلك في الباب الرابع. وما يتبع ذلك من أنواع حديثية متعددة.

ومن أهم المسائل التي اتضحت لي من خلال ذلك المنظار:

أولاً: أن السنة المطهرة والأحاديث الشريفة قد وصل كل حديث منها إلينا عَبْر ثلاث مراحل:

1_ المرحلة الأولى: منذ صدوره عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى الراوي الذي انتشر عنه الحديث (مدار الإسناد) وربما كان ذلك الراوي صحابياً، أو تابعياً، أو تابع تابعي ..... وهذه المرحلة هي (المخرج).

2 _ المرحلة الثانية: من المدار إلى أصحاب الكتب، وفي هذه المرحلة انتشرت الأحاديث واشتهرت، وربما تواترت عن المدار.

3_ المرحلة الثالثة: من أصحاب الكتب إلينا، وفي هذه المرحلة برزت كتب معينة مشهورة، كالصحيحين والسنن والمسانيد اعتنت الأمة بها، وكثرت نسخها، حتى صارت متواترة عن أصحابها أو مشهورة عنهم.

وثمة كتب أخرى لم تحظ بتلك العناية كالأجزاء المفردة ونحوها. فنجد أن عُظْم السنة الذي تبنى عليه أحكام الدين، قد نُقل في الكتب المشهورة أو المتواترة عن أصحابها، واشتهر كذلك أو تواتر عن المدار.

فانحصر التفرد في المدار ومن فوقه، وغالباً ما يكون المدار تابعياً. فإما أن يروي عن تابعي أكبر منه، أو يروي عن الصحابي مباشرة، فانحصرت مسؤولية التفرد إجمالاً في جيل الصحابة وجيل التابعين وجيل أتباع التابعين (بقدر أقل)، أما الصحابة y فقد عَدَّلهم الله تعالى في كتابه الكريم، وأما التابعون و أتباعهم رحمهم الله، فقد زكاهم رسول الله r في السنة المطهرة؛ فانقطع الطريق على أعداء الملة في تشكيكهم بنقل السنة وإيهامهم الناس بأنها إنما نقلت آحاداًُ!!.

نعم: نقلت آحاداً في ذينك الجيلين، وأما بعد ذلك فلا، بل هي إجمالاً في الغالب: مشهورة أو متواترة.

هذه النتيجة لم تكن لتظهر وتتضح إلا من خلال منظار (معرفة مدار الإسناد).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015