و لم أسطر هذا لتبكيتك و التنكيل بك، لا .. لا .. ، و لكن هالتني تلك السُحب الواكفة، و السيول الجارفة، من تعقباتك التي شحذت غلظة و شدة، و كانت أشد من السنان مضاءة و حدة، مع أن لك في إقامة العذر منادح، و في تلطيف العبارة مسارح، تصول و تجول فيها بيراعتك، و تُزهر فيها أفانين بلاغتك،و التي توشيها -كما عهدتك- بسني فكرك، و نجي صدرك، من ضروب الفوائد، و شتات العوائد، مسديا بذلك خدمة لقارئها، و الذي يعقبها بدعوة لصحابها، و هذا هو المنتهى و المبتغى،
و أما إخبارك بمحبتك للإمام، فو الله .. لو لا معرفتي بك، لقلت: أن تعقبك للإمام - على هذا المهيع - يكذب دعواك و مدعاك،
إذ للمحبين في عتب و عذل أحبابهم - إن أخطأوا- مذاهب معروفة، و هي بالمحاسن موصوفة،
و أما مذهبك أيها المحب للإمام، فلم أر لك في المحبين سلف، قد أخذ مما أخذت منه بطرف، بل وجدت مذهبك عندهم مطروح، و منبوذ لديهم و مرجوح، و يستعظمون أن يقال لمثل هذا العاذل المبالغ (و المجازف) في عذله أنه "محب"، بل ألفيتهم يسِمُونه بالكاظم للشِحنة و الشنآن، و غيرها مما ينزه عنه أهل المحبة و المودة،
و معاذ الله أن أرميك بالحقد و الضغينة، فهما مما أنزهك عنهما لمعرفتي بك، و لاستيثاقي -جزما- من حبك للإمام، و الذي لم تسلك في عذله و لومه مذهب المحبين، و لعلك أدرى مني بها، فقد طال العهد بيني و بين تلك الفنون،
و أما الخطة التي انتهجتها، و هي مما تمدح عليه و تشكر، و لكن لا تنسى أنه إذا كان المتعقَب عليه (إمام)، اشرأبت إلى ذاك التعقيب أعناق الأنام، ....
و أما شهادة الجنان، فقد زكيتُها بنطق اللسان، و تسطير البنان، فتمام فضلك، و كمال نبلك، مما لا ينكره إلا مبغض أو حاسد، و أنا أعلم أنك ذقت من علقم هذين الشخصين مما لو مزج بالبحر لمزجه، و لكن ستُسَر بذاك عند مولاك، و اعلم - علم يقين- إني لست منهما، فإني أعوذ بالله من اثنتين: أن أحسد أو أبغض مسلما لعلمه و فهمه، و لأن أحسده أو أبغضه لماله و دنياه أهون علي من الأوليين،
نعم قد ترى في أثناء كلامي هجمات لاذعة، و عبارات شبه مقذعة، فإنما عظُم علي الخطب، و اشتد بي الكرب، عندما وجدتك تأتي لمسائل للنظر فيها مجال، و ألفاظ للإمام سطرها عن حسن نية، و صفاء طوية، فتردفها بردود مطولة، و عبارات مهوِلة، يترفع عنها الباحث (و البحث العلمي)، و بالخصوص من في مثل نبهاتك و درايتك،
و إلا فإني أدري بأنك للاجتهاد و الدليل ناشد، و عن مقولة (إنا وجدنا آباءنا) حائد، و لكن عذري فيما قلتُ عنك، ما أسلفت ذكره، و أسأل الله تعالى أن يغفر لي و لك .. ،
و أما ما سقته ممثِّلا به بعضا من ثنائك على الإمام في (الرحمات)، فهو لا يسلم مما في سابقه، و إن كان أخف وطأة، و أقل وقعا على الإمام رحمه الله.
و قد استرعى انتباهي .. ، ذكرك لمصنف للشيخ المحدث محمد عمرو عبد اللطيف - رحمات ربي عليه- في الاستدراك على الإمام، فمن خلال معرفتي القاصرة بهذا العلَم، فإني أستبعد أن يكون انتهج نفس النهج الذي اتبعته في تعقبك على الإمام، فهذا مما أستبعده جدا،
و لا غرابة في هذا، كما أنه لا غرابة في أن يكون الإمام مستدركا عليه،
فصنيعُ هذا العلَم في استدراكه على الإمام يستحثني لكتْب بعض النماذج عن علماء استدركوا على مَن تقدمهم مِن الحفاظ، و سأكتفي في هذا الموطن بما تعنَّى ذاك العلَم الشامخ في الاستدراك فيه، و هو علم الرجال:
فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري، و قعت له أخطاء في (تاريخه)، فألف في بيانها ابن أبي حاتم - الحافظ بن الحافظ - كتابا مطبوع بنحقيق المعلمي - رحمهم الله -.
و كذا أملى الحافظ (فخر مصر و درتها) عبد الغني بن سعيد الأزدي مجالسا بين فيها أخطاء البخاري في (تاريخه)، يرويها عنه الحافظ ابن خير الإشبيلي، و نرويها من طريقه،و لله الحمد.
كما أنه ألف كتابا بين فيه خطأ شيخه الحاكم في (المدخل).
و غيرها مما لا نطيل بذكره، و هو لا يخفى على مثلك،
فهؤلاء حفاظ الأمة يتعقبون و يستدركون، و لم نرهم انتحوا منحاك، فهلا احتذيت صنيعهم حذو النعل بالنعل،
فأرجو أن لا تظنن بأخيك الظنون، إذا أغلظت في العبارة، فيعلم الله أني لم أقصد إلا الخير،
و قبل أن أكف نزيف اليراعة عن الكتْب في هذا الموضوع، فلي عندك سؤال مرفوع، و هو:
أن توجز في التخريج و التعليق (عند التحقيق) ما أمكن، فأسعار الكتب المتسعرة أحرقت جيوب الفقراء أمثالي من طلبة العلم، و من الله أستجدي المعونة، و السلام عليكم ورحمة الله.
ـ[أبو بكر المكي]ــــــــ[27 - 11 - 09, 02:57 م]ـ
صاحب المقال الموقر أبا المظفر - لا زلت ظافرا بكل خير - ..
يا حبذا الايتعاد عن تفخيم الألقاب، كقولكم: وقد جرَّد شيخ المحدثين، وعمدة المدققين في هذا الزمان: محمد عمرو عبد اللطيف - حفظه الله - ... لا حاجة له، فمنزلة الشيخ - رحمه الله - وقدره معروفان .. فالكتاب الخالي من هذه الألقاب يدل على رزانة مؤلفه، ونظرته المنصفة، وأحسبك من أهل الإنصاف .. (جزاك الله خيرًا، وفي انتظار كتابكم - نفع الله به -).
¥