وقال في طبقات المدلسين (ص16): ((ويلحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدِّثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهماً السماع، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً .. ومِمَّن وُصف بالتدليس مَن صرَّح بالتحديث من الوجادة)). اهـ
وقال أبو بكر الشافعيّ الصيرفيّ (معرفة أنواع علوم الحديث ص143): ((كُلُّ مَن عُلم له سماعٌ مِن إنسان، فحدَّث عنه: فهو على السماع حتى يُعلَم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكلّ مَن عُلم له لقاء إنسان، فحدَّث عنه: فحكمه هذا الحُكم)). ثم قال ابن الصلاح: ((وإنما قال هذا فِيمَن لم يظهر تدليسُه)). اهـ
فها أنتَ ترى قول الصيرفي: ((حتى يُعلَم أنه لم يسمع منه ما حكاه)) تقييداً بعد إطلاق، وهو ما نصّ عليه ابن الصلاح. وهو ما نصّ عليه ابن حجر بأنَّ ((أخبرنا)) تُقبَل فقط مِن المدلِّس الذي ((لم يوصَف بأنه كان يدلّس الصيغ أيضاً، فقد ثبت عن أبي نعيم الأصبهاني أنه كان يقول في الإجازة: "أخبرنا"، وفي السماع: "حدثنا")) اهـ وهو نفس ما نبّه إليه القطان مع ابن جريج أيضاً.
وقد أخرج القاضي الرامهرمزي (المحدّث الفاصل، ص430) بسنده عن هشام بن عروة قال: ((أتاني ابن جريج بصحيفة، فقال: "يا أبا المنذر، هل هذه أحاديثك"؟ فقلتُ: نعم. فذهب!)). اهـ فهذا ديدنه لِمَن تتبَّع رواياته. فقد نصّ البخاري وغيره أنه لم يسمع مِن عمرو بن شعيب شيئاً، ومع ذلك كان يروي عنه ويقول: ((أخبرني عمرو بن شعيب))!! فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه (17155) وأبو عوانة في مستخرجه (4880) والبيهقي في سننه الصغير (2469) والدارقطني في الكبرى (190) وغيرهم، أحاديث لابن جريج يقول فيها: ((أخبرني عمرو بن شعيب))!
قال ابن المديني (تهذيب التهذيب 6/ 359): ((سألتُ يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: "ضعيف". قلت ليحيى: إنه يقول: "أخبرني"! قال: "لا شيء، كله ضعيف، إنما هو كتاب دفعه إليه")). اهـ
ولذلك لمّا سئل الدارقطني عن تدليس ابن جريج قال (سؤالات الحاكم 265): ((يُتجنَّب تدليسه، فإنه وحش التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما)). اهـ ونقله ابن حجر في طبقات المدلسين (83) فقال: ((قبيح التدليس)).
فتبيَّن لك أمور ثلاثة:
(1) أن ابن جريج كان يدلّس في الصيغ ويقول في الإجازة و الوجادة "أخبرني" موهماً السماع. فما لم يُصرّح فيه بسماعه من شيخه، فليس بشيء.
(2) أنه يدلّس عن الكذابين والهلكى فكان يأخذ عن كل أحد، حتى قال فيه الإمام مالك (تهذيب الكمال 18/ 349): ((كان ابن جريج حاطب ليل)). اهـ
(3) أنه معروف بالرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى.
فانجلى لك آفة هذا الحديث وأن ابن جريج دلّسه عن إبراهيم بن أبي يحيى، إذ الحديث من موضوعاته.
سأل يحيى بن سعيد الإمامَ مالك عن إبراهيم بن أبي يحيى: أكان ثقة في الحديث؟ قال: ((لا، ولا في دينه)). وقال يحيى بن سعيد: ((إبراهيم بن أبي يحيى كذاب)). وقال أحمد: ((يروي أحاديث ليس لها أصل)). وقال ابن المديني: ((إبراهيم بن أبي يحيى كذاب)). وقال النسائي والدارقطني: ((متروك)). وقال ابن حبان: ((يكذب في الحديث)). قال إبراهيم بن سعد: ((كنا نسمّي إبراهيم بن أبي يحيى، ونحن نطلب الحديث: "خرافة")). اهـ[ميزان الاعتدال 189، 1/ 57 - 61].
أخرج أبو عبد الله الحاكم في (معرفة علوم الحديث ص33): شبَّك بيدي أحمد بن الحسين المقرئ، وقال: شبّك بيدي أبو عمرو عبد العزيز بن عمر بن الحسن بن بكر بن الشرود الصنعاني، وقال: شبّك بيدي أبي، وقال: شبّك بيدي أبي، وقال: شبّك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال إبراهيم: شبّك بيدي صفوان بن سليم، وقال صفوان: شبّك بيدي أيوب بن خالد الأنصاري، وقال أيوب: شبّك بيدي عبد الله بن رافع، وقال عبد الله: شبّك بيدي أبو هريرة، وقال أبو هريرة: شبّك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال:
((خلق الله الأرض يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الإثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة)). اهـ
فالحديث من وضع إبراهيم بن أبي يحيى كمّا نبّه ابن المدينيّ، ولكن الذي أخذه عنه ليس إسماعيل بن أبي أمية بل ابن جريج، وصنيعه هذا منصوصٌ عليه لدى أئمة العلل، فبانت الآفة.
يتبع إن شاء الله ..
¥