وأُعلّ الحديث بتدليس مكحول، فإن ابن حبان قد قال فيه: «ربما دلس» (الثقات: 5/ 447)، ثم إنه لم يثبت سماع مكحول من محمود بن الربيع، قال التهانوي: «ولم يثبت سماع مكحول عن محمود بن الربيع، وهو من الصحابة، ولم يصرح بالتحديث والسماع، قال البخاري في جزء القراءة: (والذي زاد مكحول، وحرام ... إلى أن قال: وهؤلاء لم يذكروا أنهم سمعوا من محمود) ... وفي التهذيب: قال أبو حاتم: قلت لأبي مسهر: هل سمع مكحول من أحد من الصحابة؟ قال: من أنس. ا. هـ، وفيه: قال الترمذي: سمع مكحول من واثلة وأنس وأبي هند الداري، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا منهم» (إعلاء السنن: 4/ 112).
وإعلاله بعدم السماع أقوى من إعلاله بالتدليس، فإن كلمة ابن حبان في تدليس مكحول تشعر بقلته، وأما السماع فلم أجد من أثبت له سماعًا من محمود (بل ولا من نافع بن محمود)، ولم أجد روايةً صرح فيها بالسماع.
وبعد، فقد ظهر أن الحديث معلول بعلل:
1 - الاضطراب، فمكحول مضطرب في هذا الحديث كما ظهر،
2 - المخالفة، وقد وقعت من وجهين:
أولهما: أن الزهري روى الحديث عن محمود بن الربيع فلم يذكر القصة مرفوعةً، قال الترمذي عقب إخراجه الحديث: «وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وهذا أصح»، وقال التهانوي: «والصحيح من حديث محمود هو طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة مرفوعًا: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بدون هذه القصة» (إعلاء السنن: 4/ 108).
وثانيهما: الوقف، فرجاء بن حيوة روى الحديث عن محمود وذكر القصة موقوفةً، وقد فضل مكحول نفسُهُ رجاءً على نفسه، وقد ذُكر في ترجمة رجاء ما يدل على قوة ضبطه وحفظه، قال ابن عون: «كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه» (تهذيب الكمال: 9/ 155)، وقد فُضّل راشد بن سعد على مكحول (انظر: تهذيب الكمال: 9/ 11)، وراشد بن سعد ثقة تكلم فيه بعض العلماء، وفُضل سليمان بن موسى على مكحول أيضًا (انظر: تهذيب الكمال: 12/ 95)، وسليمان صدوق له مناكير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعفه أحمد وغيره من الأئمة، وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع، وبين أن الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة إلا بأم القرآن»، فهذا هو الذى أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة، وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين، وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا، فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة» (مجموع الفتاوى: 23/ 286، 287).
3 - الانقطاع، في عدم سماع مكحول ممن روى عنهم.
وممن ضعفه من الأئمة:
1 - يحيى بن معين، قال التهانوي: "قال إمام الفن يحيى بن معين: «إن الجملة الاستثنائية - يعني: قوله: "فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" - إسناده ليس بذلك» ... قاله الزيلعي، كذا في حاشية النسائي ... » " (إعلاء السنن: 4/ 112)، ولم أجده في نصب الراية.
2 - أحمد بن حنبل، نقله عنه ابن تيمية - كما سبق -، والزيلعي - فيما ذكر التهانوي في تتمة كلامه السابق -.
3 - الترمذي.
4 - الجصاص.
5 - ابن عبد البر.
6 - ابن الجوزي في التحقيق (1/ 369).
7 - ابن قدامة.
8 - ابن تيمية.
9 - ابن التركماني.
10 - وابن رجب، نقله الكشميري في العرف الشذي، ولم أقف على كلامه، والأسف على هذا شديد!
وهؤلاء من أعلى المحدثين كعبًا، وأرسخهم قدمًا، وأكبرهم منزلة، وأفهمهم في علم الحديث وطرقه وعلله ورجاله، والدراسة العلمية تؤيد ما ذهبوا إليه، وترجح ما اختاروه، وتبيّن صحة ما عللوا به.
فالراجح من طرق هذا الحديث - كما ظهر -: رفعُ قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيه ذكرٌ لكون ذلك خلف الإمام، ووقف استثناء قراءة الفاتحة خلف الإمام على عبادة - رضي الله عنه -.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.