وأما قول الشيخ الألبانى ((إرواء الغليل)) (5/ 1489): ((إن التحقيق الذى حكاه إنما هو بالنسبة لرأى بعض الأئمة، وهو الساجى، وأما الأخرون من المضعفين فقد أطلقوا التضعيف ولم يقيدوه كما فعل الساجى، وهو الذى ينبغى الاعتماد عليه، لأن تضعيفه مفسر بسوء الحفظ عند جماعة منهم: الدارقطنى، فهو جرح مفسر يجب تقديمه على التوثيق باتفاق علماء الحديث. ثم هو مطلق يشمل روايته عن عبيد الله وغيره، وهو ظاهر كلام البخارى.

هذا هو التحقيق الذى ينتهى إليه الباحث فى أقوال العلماء فى الرجل، وقد لخصه الحافظ أحسن تلخيص كما عادته فى ((التقريب)) فقال: صدوق سيئ الحفظ، فأطلق تجريحه كما فعل الجماعة، ولم يقيد كما فعل الساجى)) اهـ.

ثم قوله: ((وأما القول بأن من روى له البخارى فقد جاوز القنطرة، فهو مما لا يلفت إليه أهل التحقيق كأمثال الحافظ ابن حجر العسقلانى، ومن له إطلاع على كتابه ((التقريب)) يعلم صدق ما نقول)) اهـ بلفظه.

أقول: فى هذا التعليق المقتضب مغالطات كثيرة:

أولها: قوله ((أطلق الحافظ فى ((التقريب)) تجريحه كما فعل الجماعة)) أبعد شئٍ عن التحقيق!، فمَنْ الجماعة بعد: الشافعى، والزعفرانى، وأحمد بن حنبل، وابن معين، والبخارى، وابن سعد، والعجلى، وابن عدى، وابن شاهين أهم الساجى، والدارقطنى، والحاكم أبو أحمد وحدهم؟!. بل الجماعة هم موثقوه كما بيَّناه بياناً شافياً قاطعا للعذر.

ثمَّ أليس ينبغى أن يحمل قول الحافظ ((صدوق سيئ الحفظ)) على ما فصَّله فى معرض الاحتجاج للبخارى فى روايته لحديث يحيى بن سليم بقوله ((والتحقيق: أن الكلام فيه إنما وقع في روايته عن عُبِيدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ خاصة، وهذا الحديث من غير روايته))، من باب حمل المطلق على المقيد!!.

ثانيها: قوله إن الساجى وحده هو الذى قيَّد ضعفه بِعُبِيدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ خطأ، وأخطئ منه ما بُنى عليه من حكمٍ فى حقِّ الطَّائِفِيِّ، فقد علمت أن مقيدى ضعفه بِعُبِيدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أربعة من الأئمة: رأسهم أحمد بن حنبل، ثم الساجى، والنسائى، وابن حبان.

ولا تنسى ما ذكرناه آنفاً بقولنا: ولا يشك العارف المدقق أن الإمام أحمد أعرف الأئمة بحاله، سيما وقد التقى به وحمل عنه حديثاً واحداً، وأسند عن جماعة من شيوخه أحاديثهم عنه فى ((مسنده))، ومنها حديثه الذى فى ((صحيح البخارى)).

ثالثها: قوله ((ظاهر كلام البخارى تجريحه بإطلاق)) لا يحتاج إلى دليل لبيان خطئه، إذ يكفى تخريج البخارى حديثاً واحداً له فى ((صحيحه)) للدلالة على توثيقه إياه، وهو القائل: ((ما أدخلت في كتابي الجامع الا ما صحَّ)). ولا يغيبن عنك: أن الكلام هاهنا عما أدخله فى ((صحيحه))، أعنى حديثه ذا، لا ما عداه!!.

رابعها: قوله ((قولهم أن من روى له البخارى فقد جاز القنطرة مما لا يلتفت إليه أهل التحقيق كالحافظ)) من أعجب الأغلاط فى حق الحافظ ابن حجر.

فهو المقرر والمؤكد والمفهوم من كلام الحافظ وتقريراته، وعنه كان ينافح، وذلك قوله فى ((مقدمة الفتح)) (1/ 384): ((ينبغي لكل مصنف أن يعلم أن تخريج صاحب ((الصحيح)) لأي راو كان مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بـ ((الصحيحين)). وهذا معنى لم يحصل لغير من خرجا عنه في ((الصحيحين))، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما. هذا إذا خرج له في الأصول، فإما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا، أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج له في ((الصحيح)): هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه. قال الشيخ أبو الفتح القشيري ـ يعنى ابن دقيق العيد ـ في ((مختصره)): وهكذا نعتقد وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف، يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بـ ((الصحيحين))، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما)) اهـ.

وفى كلام الحافظ هذا الموفى لشيخى المحدثين حقهما من التقدير والإكبار، أبلغ رد على من غلط فى حق رواة ((الصحيح))، لا سيما قوله ((إن إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بـ ((الصحيحين))، هو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما)).

وهل استهان المتهوكون بالـ ((الصحيحين))، وتجرأوا على الطعن فيهما إلا بمثل هذا الغلط، والتجنى على إمام المحدثين وتاج العارفين أبى عبد الله البخارى ـ عليه سحائب الرحمة وشآبيب الغفران ـ!!.

وما مثل إمام المحدثين وجامعه ((الصحيح)) إلا كما قال القائل ـ ولله دره ـ:

حَسَدُوا الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فالْكُل أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ

كَضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدَاً وَبَغْيَاً إِنَّهُ لَدَمِيمُ

وَتَرَى اللبِيبَ مُشَتَّمَاً لْمْ يَجْتَرِمْ ... عِرْضَ الرِّجَالِ وَعِرْضُهُ مَشْتُومُولله در القائل:

صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ ... لَمَا خُطَّ إِلا بِمَاءِ الذَّهَبْ

هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالْعَمَى ... هُوَ السَّدُ بَيْنَ الْفَتَى وَالْعَطَبْ

أَسَانَيدٌ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ ... أَمَامَ مُتُونٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ

بِهِ قَامَ مِيزَانُ دِينِ الرسول ... وَدَانَ بِهِ الْعُجْمُ بَعْدَ الْعَرَبْفلله در شيخ الإسلام ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ الْمِصْرِى حيث أسلم قياده، وقال: ((هكذا نعتقد، وبه نقول))، وكذلك نقول وبه ندين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015