ففي خلال القرن الثالث اتضحت معالم هذا العلم ـ علوم الحديث ـ بما ذُكِر من مسائله في كتب الرجال، أو في كتب الحديث، أو في كتب مستقلة ذات موضوع واحد، مثل كتب الإمام علي بن المديني، وأكثرَ الكاتبون في مسائله: فمنهم: الإمام الحافظ الحجة أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، (181 ـ 255هـ) في المقدمة النفيسة لكتابه: "السنن"، وهو أحد شيوخ الأئمة المحدثين الكبار كالبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي، وهذه الطبقة العالية الشأن.
فإن هذه المقدمة نفيسة الموقع كل النفاسة؛ إذ تعرض فيها للتعريف بصاحب السنة الشريفة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان الناس عليه قبل مبعثه، كما تعرض لذكر أول شأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما أكرمه الله به من معجزات، وما خص به من الصفات المحمدية، والأخلاق النبوية، ولذكر وفاته، وللزوم اتِّباعه، والأدب مع سنته، وأوامره، ونواهيه.
وتوجد ـ أيضاً ـ جملة من ألفاظ الجرح والتعديل، والمصطلح، في كتاب "الثقات" للعجلي: أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي ثم الطرابلسي (261هـ) ـ رحمه الله ـ.
وكذلك في كتاب: "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (200 ـ 281هـ) ـ رحمه الله ـ كلام كثير جداً في الرجال، ومسائل من علوم المصطلح، بل هو محشو حشواً بتلك الفوائد والمسائل، حتى إن تلميذه أبا بكر الخلال أحمد ابن أحمد بن هارون (311هـ) سمى كتاب شيخه هذا: "كتاب التأريخ وعلل الرجال"؛ ففيه نُقُول في مسائل هامة من علم مصطلح الحديث من كلام أئمة القرن الثاني والثالث، كالإمام التابعي محمد بن شهاب الزهري (124هـ) ـ رحمه الله ـ، وكلام الإمام الأوزاعي (157هـ) ـ رحمه الله ـ، وكلام الإمام مالك (179هـ) ـ رحمه الله ـ ومن كلام كثير سواهم.
وقد جاء في كلام هؤلاء الأئمة: التوثيق، والتضعيف، والجرح والتعديل، والتفضيل لبعض الرواة الثقات على بعض، وذكر من يدلس، ومن لا يدلس، والمفاضلة بين الحافظ والأحفظ، والفقيه وغير الفقيه ... ، وحكم التحديث، والإخبار، والإجازة، والقراءة على العالم والسماع منه، وكيف يروى عنه في ذلك، وذِكْر مصطلح بعض المحدثين كدحيم شيخ أبي زرعة الدمشقي، وذِكْر من حظي بالصحبة واللقاء، والإدراك للنبي صلى الله عليه وسلم وعدمه، وذِكْر الموالي ومواليهم، والأسماء المتفقة والمفترقة، وأنساب الرواة، وألقابهم، وكناهم، وبيان مواليدهم، ووفياتهم، وبعض شيوخهم، والجرح ببدعة القدرية والخوارج، وبالزندقة، وباللصوق بالسلطان والخروج عليه، وغير ذلك من المسائل الهامة المفيدة.
وكذلك في كتاب "المعرفة والتأريخ" للحافظ الإمام يعقوب بن سفيان الفَسَوي (200 ـ 277 هـ) جملة صالحة من علوم المصطلح منثورة في خلال بحوثه، يقف عليها الباحث المتتبع بيسر وسهولة.
وكذا للحافظ العلامة أبي بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزَّار (290هـ) جزءٌ في معرفة من يُترك حديثه، أو يقبل، ذكره الحافظ العراقي، ونقل عنه في شرحه "للألفية".
وهكذا تعددت التآليف، وتنوعت التصانيف، وكثرت الروافد والأصول، حتى جاء في القرن الرابع الهجري أئمة أعلام لم يفتؤوا من العناية، والكلام عن الحديث ومصطلحاته، ومباحثه.
وفي منتصف القرن الرابع توجهت أنظار بعض العلماء إلى جمع تلك المباحث والقواعد المتفرقة في كتاب جامع ناظم لمسائل هذا العلم العظيم ـ علوم الحديث ـ.
فقد كتب الإمام الحافظ الناقد ابن حبان البُستي مقدمة صحيحه: "التقاسيم والأنواع"، ومقدمة كتابه الآخر: "المجروحين"، ومقدمة كتابه الثالث: "الثقات"، وتعد هذه المقدمات ـ وخاصة مقدمة الصحيح والمجروحين ـ من أهم ما كُتبَ في علوم الحديث لما حوته من مباحث مهمة، وقواعد لا يستغنى عن العلم بها.
وفي القرن الرابع أيضاً كتب الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (388 هـ) مقدمة كتابه: "معالم السنن"، ومع كونها صغيرة إلا أنها تعتبر أول باكورة في تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف.
ثم كتب ـ أيضاً ـ الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي (403هـ) مقدمة كتابه: "مختصر الموطأ عن مالك"، المعروف بـ "الملخَّص" تناول فيها مسائل في: الاتصال والانقطاع، وصيغ الأداء، والرفع وأنواعه، ونحوها.
¥