وقد علق الشيخ أحمد شاكر على كلام الشافعي في "الرسالة" بقوله: " ... ومن فِقْهِ كلام الشافعي في هذا الباب وُجِدَ أنه جمع كل القواعد الصحيحة لعلوم الحديث "المصطلح"، وأنه أول من أبان عنه إبانة واضحة، وأقوى من نصر الحديث، واحتج لوجوب العمل به، وتصدى للرد على مخالفيه، وقد صدق أهل مكة وبروا إذ سموه: (ناصر الحديث)، ـ رضي الله عنه ـ" (10).

ثم تبعه الإمام الحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي (219هـ) شيخ البخاري والذهلي وهذه الطبقة؛ فقد روى عنه الحافظ أبو بكر بن الخطيب في مواضع من كتابه: "الكفاية في علم الرواية" كلمات هامة في مصطلح الحديث يمكن أن تعد رسالة لطيفة في الموضوع، فيها التعريف الكاشف للحديث الصحيح المحتج به، ولحكم الحديث المعنعن، وما يعد جرحاً عاماً في الراوي، وما لا يُعد إلا جرحاً في بعض حديثه، وغير ذلك مما له أهميته (11).

وكذا في "الجامع الصحيح" للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ـ رحمه الله ـ (194 ـ 256) جملٌ كثيرةٌ في مسائل مصطلح الحديث، وكذلك في مجموع كتبه كـ "التاريخ"، و"الضعفاء"، فَيُلتَقَط منها جمل جمة من علوم الحديث، لا سيما مباحث الجرح والتعديل.

ثم تبعه الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج ـ رحمه الله ـ (240 ـ 261هـ)؛ حيث قدم لكتابه: "الجامع الصحيح"، مقدمة نفيسة تضمنت جملة صالحة من علم المصطلح، وجاءت هذه المقدمة الحديثية الاصطلاحية بالغة الروعة في لغتها، وقوتها ومضمونها، وأمثلتها.

وهناك من الأئمة المحدثين من كان يشير إلى بعض قواعد علوم الحديث من تصحيح، أو تضعيف، أو تعليل خلال كلامه على الحديث، كثيراً كان أو قليلاً.

فمن المكثرين: الإمام الحافظ محمد بن سورة الترمذي ـ رحمه الله ـ؛ ففي كتابه المشهور بـ "الجامع" جملة كبيرة من علوم الحديث نجدها مبثوثة في أبوابه، وعند الكلام على أسانيده.

قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتابه:"عارضة الأحوذي" (12): "وليس في قدر كتاب أبي عيسى مِثْلُهُ حلاوةَ مَقْطَعٍ، ونَفَاسَةَ مَتْرَعٍ، وعذوبةَ مشرعٍ، وفيه أربعة عشر علماً فرائد: صنَّف ـ أي الأحاديث ـ على الأبواب ـ وذلك أقرب للعمل ـ وأسند، وصحَّح، وأشهر، وعدد الطرق، وجرَّح، وعدَّل، وأسمى، وأكنى، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، فرْد في نصابه".

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد ـ رحمه الله ـ: "هذا الذي قاله القاضي أبو بكر ـ رحمه الله تعالى ـ في بعضه تداخل، مع أنه لم يستوف تعديد علومه، ولو عدد ما في الكتاب من الفوائد بهذا الاعتبار لكانت علومه أكثر من أربعة عشر؛ فقد حسَّن، واستغرب، وبيَّن المتابعة والانفراد، وزيادات الثقات، وبين المرفوع من الموقوف، والمرسل من الموصول، والمزيد في متصل الأسانيد، ورواية الصحابة بعضهم عن بعض، ورواية التابعين بعضهم عن بعض، ورواية الصاحب عن التابعي، وعدد من روى هذا الحديث من الصحابة، ومن تثبت صحبته ومن لم تثبت، ورواية الأكابر عن الأصاغر، إلى غير ذلك.

وقد تدخل رواية الصاحب عن التابع تحت هذا، وتاريخ الرواة.

وأكثر هذه الأنواع قد صُنِّف في كل نوع منها، وفي الذي بيناه ما هو أهم للذكر" انتهى.

وقد ختم الترمذي ـ أيضاً ـ "جامعه"، بجزء نفيسٍ للغاية، ألحقه به، وعُرِف أخيراً بكتاب: "العلل الصغير"، جاءت فيه المباحث الكثيرة الهامة: في الجرح والتعديل، ولزوم الإسناد، والرواية عن الضعفاء، ومتى يحتج بحديثهم، ومتى لا يحتج؟ وفي الرواية بالمعنى، كما ذُكِر فيه شيء من مراتب بعض المحدثين الكبار، وصور التحمل والأداء، ومن حُكْم الحديث المرسل، واصطلاح الترمذي في وصفه الحديث بالحسن، أو الغريب في كتابه.

ومن المقلين الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي المشهور بأبي داود ـ رحمه الله ـ (275هـ)؛ حيث حفظ لنا قدراً حسناً من مسائل هذا العلم في "رسالته في وصف سننه" إلى أهل مكة.

وكذا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي ـ رحمه الله ـ (303هـ)، لم يخل كتابه: "السنن" من بعض مباحث علوم الحديث.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015