وهكذا تتابع العلماء كتابةً في هذا الفن ـ علوم الحديث ـ وما زالوا على هذا المنوال حتى تصدى بعض أهل العلم للكتابة والتدوين لهذا الفن استقلالاً.
التدوين استقلالاً:
ومن أول من دوَّن فيه تدويناً مستقلاً الحافظ القاضي الإمام البارع الذواقة أحد أئمة هذا الشأن ـ دون شك ـ: أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاَّل الفارسي الرَّامَهُرْمُزي، (265 ـ 360 هـ) ـ رحمه الله ـ، فألَّف فيه كتابه الرائد الماتع الشهير بـ "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، وهو كتاب جليل عظيم النفع جمع فيه مادة ضخمة منوعة في فنون الرواية وآدابها.
وكذلك نجد كتاب: "المحدث الفاصل" معتمداً الاعتماد كله على كلام أئمة النقد من أئمة الحديث في القرن الثالث الهجري؛ حيث بيَّن فيه منهجهم في مسائل "علوم الحديث".
وكذلك لأبي عبد الله بن منده الحافظ (395هـ) ـ رحمه الله ـ "جزء" في شروط الأئمة في القراءة، والسماع، والمناولة، والإجازة ذكره الحافظ سبط ابن العجمي في كتابه: "التبيين لأسماء المدلسين".
وكذا قام الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ـ رحمه الله ـ (405هـ)، بتأليف كتاب مستقل فيما نحن بصدده، وذلك هو كتابه العظيم: "معرفة علوم الحديث".
فجاء كتاب الحاكم وكأنه مختص بما كان أهمله كتاب الرَّامَهُرْمُزي ـ رحمه الله ـ من الاعتناء بمصطلح الحديث، وشرح معناه، وضرب الأمثلة له.
وقد تكلم ـ رحمه الله ـ عن العالي والنازل، والموقوف والمرسل والمنقطع، والمعنعن، والمعضل، والصحيح، والسقيم، وغير ذلك من الأنواع، التي بلغت عنده اثنين وخمسين نوعاً.
وكتابه هذا صريح كله بأنه ناقل لما عليه أئمة الحديث من شيوخ الحاكم ومَنْ قبلهم، وخاصة أئمة القرن الثالث الهجري.
وعلى هذا المنهج نفسه ـ في الأغلب ـ صنف الحافظ أبو نعيم الأصبهاني "مستخرجه على معرفة علوم الحديث للحاكم" (13)؛ لأن طبيعة المستخرجات تُلزم بذلك.
وهنا ننتهي من الكلام على مصنفات علوم الحديث في القرن الرابع، وندخل في القرن الخامس الهجري؛ إذ تتابع فيه التأليف، وتعدد فيه التصنيف، فألف فيه حافظ المشرق الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ابن ثابت (392 ـ 463 هـ) فأكثر، وأوعبَ، وأطالَ، ونَوَّعَ؛ وقد قال عنه ابن نقطة الحنبلي: "له مصنفات في علوم الحديث لم يُسبق إلى مثلها ولا شبْهها عند كل لبيب. إن المتأخرين من أصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب" (14). انتهى.
وعنه قال ابن حجر: "قلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً" (15)؛ إلا أن أجلَّ كتبه، وأنفعها في علوم الحديث هو: "الكفاية في علم الرواية".
أما منهجه في كتابه هذا فقد صرح به الخطيب ـ رحمه الله ـ في مقدمته تصريحاً واضحاً؛ حيث قال: "وأنا أذكر ـ بمشيئة الله تعالى وتوفيقه ـ في هذا الكتاب: ما بطالبِ الحديث حاجةٌ إلى معرفته، وبالمتفقه فاقةٌ إلى حفظه، ودراسته من بيان أصول علم الحديث وشرائطه، وأشرح من مذاهب السلف الرُّواة والنَّقلة في ذلك ما يكثر نفعه.
ومن أعيان هذا القرن ـ الخامس ـ الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (446 هـ)؛ فقد كتب في مقدمة كتابه: "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" مقدمة نفيسة تعرض فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها، وكلامه فيها من معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب.
وكتب ـ أيضاً ـ في هذا القرن الإمام البيهقي (458هـ)، ـ رحمه الله ـ كتابه: "المدخل إلى السنن الكبرى".
وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية الكتاب شبه مفقودٍ، فكان مما فقدنا من هذا الكتاب القسم الذي خصَّه البيهقي لعلوم الحديث، ومصطلحاته، وأصوله ـ والله أعلم!
وقد جعل الحافظ ابن كثير (701 ـ 774 هـ) ـ رحمه الله ـ كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني بعد كتتاب ابن الصلاح في كتاب: "اختصار علوم الحديث"، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه (16).
غير أن محقق كتاب البيهقي: الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي قد جمع مجموعة من النقول عن القسم المفقود من "المدخل إلى السنن" من كتب علوم الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي (17).
فـ "المدخل إلى السنن الكبرى" عبارةٌ عن كتابٍ لإسناد أقوال أئمة الحديث في القرن الرابع فما قبله المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها.
¥