ومن خلال هذا نعلم أن بدء تدوين مبادئ هذا العلم، وكذا تسجيل بعض مسائله كان ببدء تدوين التاريخ للرجال، والتصنيف للحديث في الكتب، وكان قبل ذلك محفوظاً في الصدور متردداً على الألسنة، ومع ذلك فإنه لم يؤلف فيه تأليف خاص جامع في الجملة إلا في القرن الرابع، وما جاء قبل ذلك كان رسائل مستقلة، ونتفاً وجملاً منثورة، ورسائل في بعض المسائل منه تجيء بها المناسبات.
وفي أواخر القرن الثاني بُدئ بتأليف بعض المباحث منه على شكل أبواب مستقلة في موضوعها، يجمع الموضوعَ الواحد منها جزءٌ، أو أجزاءٌ تكون كتاباً لطيفاً بمقاييسنا اليوم (5).
وإذا كان ـ كما نقل النووي عن الخطيب ـ لعلي بن المديني مئتا مصنف في الحديث فمعنى ذلك أن هذا المذكورَ من مؤلفاته ـ وقد بلغت (29) كتاباً ـ غيضٌ من فيض من تصانيفه في خدمة الحديث، فلا شك أن هناك أنواعاً أخرى ألف فيها، وانقرضت كُتُبها، ولكن أصحابه وتلامذته تلقوها عنه، واستفادوا منها، وأفادوا بها مَنْ بعدهم.
وهكذا نرى أن علي بن المديني ألف في جملة كبيرة من أنواع المصطلح وفنونه، وهو من أهل القرن الثاني وأوائل الثالث.
وهكذا كانوا يؤلفون أول الأمر لكل فن من فنون علم الحديث كتاباً، ثم لما تقعدت المسائل، ونضجت المباحث، واستقرت الاصطلاحات جعلوا كل نوع باباً من أبواب المصطلح، كما هو الحال في كتاب الإمام ابن الصلاح: "معرفة أنواع الحديث"، وقد يطول النوع أو يقصر بحسب ما كتبوا فيه، وما دخل تحته من مسائل وفروع وفوائد وتنبيهات.
ويمكن أن يقال: إن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (150 ـ 204هـ)، هو أول من دوَّن بعض المباحث الحديثية في كتابه: "الرسالة"، فتعرض فيه لجملة مسائل هامة مما يتصل بعلم المصطلح، كذكر ما يشترط في الحديث للاحتجاج به، وشرط حفظ الراوي، والرواية بالمعنى، وقبول حديث المدلس، واشتهر عنه موقفه من (الحديث المرسل)، واستعمل (الحديث الحسن) كما ذكره الحافظ العراقي في حاشيته على "مقدمة ابن الصلاح" (6).
أطوار علوم الحديث:
لقد اعتاد الباحثون في علوم السنة تقسيم كتب علوم الحديث إلى طورين:
الأول: طور ما قبل كتاب ابن الصلاح "معرفة أنواع علم الحديث".
الثاني: طور كتاب ابن الصلاح، وما بعده (7).
الطور الأول:
أما بدء الطور الأول لهذا العلم فلا شك أن الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ (150 ـ 204هـ) أول من نعلمه تكلم عن بعض علوم مصطلح الحديث كلام تقعيد وتأصيل في كتابه المشهور بـ "الرسالة".
وإليك طرفاً مما قاله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في "الرسالة" مما يتصل أوثق اتصال بمصطلح الحديث.
قال ـ رحمه الله ـ في (باب خبر الواحد) (8): "قال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة.
فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو من انتهى به إليه دونه، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً:
منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يُحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه: لم يَدْرِ: لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبقَ وجهٌ يخافُ فيه إحالته الحديث.
حافظاً إذا حدث به مِنْ حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدث من كتابه، إذا شَرِكَ أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً: يحدِّث عمن لقي ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى به إليه دونه؛ لأن كل واحد منهم مثبتٌ لمن حدثه، ومثبتٌ على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت ... إلخ".
ونقل الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في مقدمته لكتاب "لسان الميزان" (9)، كلامَ الشافعي هذا، ثم قال: "وقد تضمن كلام الشافعي هذا جميع الشروط المتفق عليها بين أهل الحديث في حدِّ من تُقبل روايته" انتهى.
¥