قلت: احتمال أن يكونوا ضعفاء يرده شرط الشافعي الذي تكلمت عليه في المسألة (أ)، هذا إذا سلمنا بشرط الشافعي، وإذا لم نسلِّ به؛ فاحتمال ثقة الساقط في هذه الطبقة أكثر من احتمال ضعفه، لشيوع العدالة وكثرتها في ذلك العصر، وإن وُجد فيهم من يُعَكِّر هذا الصفو، لكن لقلة ذلك، مع رواية تابعي آخر لنفس الحديث، يَقْوى في النفس ثبوتُ الخبر، واحتمال ثبوته أرجح من احتمال ضعفه؛ إلا إذا ظهرت نكارة في الحديث، أو ظهر لنا أن الحديث يدور على ضعيف، كما في حديث القهقهة، وانظره في «جامع التحصيل» (ص:45)، فإذا ظهر شيء من ذلك؛ فلا يُلتفت إلى المرسَل، وإن تعددت طرقه، وإلا فلا بأس بالاحتجاج بالمرسلَيْن في هذه الحالة، والله أعلم وعلى كل حال فشرط الإمام الشافعي – يرحمه الله -، إن حملناه على شيوخ التابعيَّيْن كما هو ظاهر كلام العلائي في «جامع التحصيل» (ص:41)، فلا بأس بذلك، إلا أن ظاهر الكلام لا يساعد هذا الاحتمال، والله أعلم.
(د) واشترط الشافعي – يرحمه الله – في قبول المرسَل بشواهده: أن يكون المرسِل من كبار التابعين، وذكر العلائي يرحمه الله أن أشتراط الشافعي في المرسِل أن يكون مشايخه ثقات، يفيد أنَّه لا يخص المرسَل بما سقط منه صحابي فقط، فقال – يرحمه الله -:
ثم إن هذا القول من الإمام الشافعي يقتضي أن المرسَل عنده ليس مختصاً بما روى التابعي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بحيث يكون قد أسقط منه الصحابي فقط، إذ لو كان كذلك؛ لما احتاج إلى هذا الاعتبار في شيوخ المرسِل الذين يرسل عنهم، بل يطلق المرسل على كل ما سقط منه رجل أو أكثر، كما تقدم عن اختيار الخطيب، وأنه اصطلاح جمهور الفقهاء، وحينئذٍ فيشكل على ذلك قول الشافعي في آخر كلامه: «فأما من بعد كبار التابعين، فلا أعلم من يقبل مرسله»، وأراد بذلك رد مراسيل صغار التابعين كالزهري، ونحوه فمن بعدهم بطريق الأوْلى.
قال العلائي: ويمكن الجمع بين الكلامين، بأن الإمام الشافعي يرحمه الله لم يقل برد مراسيل صغار التابعين مطلقاً بالنسبة إليه وإلى غيره، بل أشار إلى علمه وما يترتب على سبره – وفي نسخة: شهرة – أحوالهم، ومقتضى ذلك أن من سبر أحوال الراوي، وعرف منه أنَّه لا يرسل إلا عن عدل ثقة يحتج بمرسله، لكن الإمام الشافعي لم يعرف هذه الحالة من أحد بعد كبار التابعين ... ، اهـ «جامع التحصيل» (ص:43).
ولما ذكر العلائي المذاهب في قبول المرسل ورده، قال: ... وعاشرها: أنَّه لا فرق في هذا الحكم بين كبار التابعين وصغارهم، فكل من اعتضد مرسله بشيء من ذلك كان مقبولاً، وهو محتمل أن يكون مراد الشافعي بقوله، كما تقدم في الجمع بين كلاميه، ويُحتمل أنَّه أراد الوجه الذي قبله – يعني التاسع وهو خاص بكبار التابعين -، اهـ (ص:49).
والذي يظهر من كلام الشافعي أنَّه خص قبول المرسل بشواهده إذا كان المرسِل من كبار التابعين، لكن محاولة العلائي التخفيف من شأن هذا الشرط، تَدل على أن صنيع من بعد الشافعي لم يقف عند هذا الشرط، أو لم يأخذ بكلام الشافعي فيه، لذا احتاج العلائي إلى تأويل كلام الشافعي.
ومما يدل على أن الشافعي يرحمه الله قد خولف في ذلك، ما قاله اللكنوي كما في «ظفر الأماني» (ص:349) في الكلام على قبول المرسل ..... وثالثها: أن يكون من كبار التابعين، وهذا الشرط وإن كان منصوصاً في كلام الشافعي، لكن عامة أصحابه لم يأخذوا به، بل أطلقوا القول بقبول مراسيل التابعين، إذا وُجدت فيها الشروط الباقية، اهـ.
ويدل على ذلك أيضاً صنيع الإمام البيهقي في «سننه الكبرى» مع أنَّه نص على اعتماده الكلام الذي قال به الشافعي، كما في «دلائل النبوة» (1/ 39 - 40)، إلا أنَّه في «السنن الكبرى» استشهد بالمرسل مطلقاً، كما في: (4/ 129) ك/ صدقة الزرع، ب/ الصدقة فيما يزرعه الآدميون، فقد استشهد بمراسيل غير كبار التابعين، كالحسن ومجاهد والشعبي، وفي (8/ 134) ك/ القسامة، ب/ لا يرث القاتل، قوى مرسل ابن المسيب بمرسل الزهري وعمرو بن شعيب وعبدالرحمن بن حرملة الأسلمي، وفي مواضع كثيرة وقف في مرسل ابن المسيب، وقواه هنا في الجملة، فقال: هذه مراسيل يؤكد بعضها بعضاً، وهناك أمثلة كثيرة يستشهد فيها بالمنقطع والمبهم، وقوي بها المراسيل ولا شك أن المرسل – وإن كان من غير كبار التابعين – أولى من سند فيه مبهم غير مسمى.
¥