الثانية: لو سلمنا بوجود تابعي كبير لم يشترك مع نظيره في شيخ من المشايخ، فما الفائدة من ذلك؟ فإن قيل: الفائدة من ذلك تعدد المخارج، الذي يورث في النفس ظناً قوياً بصحّة المرسَل، فالجواب: أن هذا الظن حاصل إذا اشتركا في جميع الشيوخ، وكان الشيوخ ثقات، ليس فيهم ضعيف، لأنَّ الحديث في هذه الحالة يكون حيثما دار دار على ثقة، فشرْطٌ تخلّفُه لا يضر لا يُسمَّى شرطاً، وإذا كان الشافعي يرحمه الله، قد اشترط في المرسل أن لا يكون إذا سمى شيخه يسمى مرغوباً عن الرواية عنه، فما حاجتنا إلى اشتراط تعدد المخرج بعد ذلك؟.
الثالثة: لازم هذا الشرط ترك الاستشهاد بالمرسَل مع المرسَل بالكلية، لعدم وقوع ذلك عملياً، وهذا الشرط قد حمل شيخنا الألباني حفظه الله تعالى على القول بذلك – وإن كان هذا خلاف صنيعه في كُتبه – فقد قال حفظه الله – في «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» (ص:23 - 24):
قلت: فإذا عُرف أن الحديث المرسَل لا يُقْبل، وأنَّ السبب هو الجهل بحال المحذوف، فيرد عليه بأنَّ القول: بأن يقْوى بمرسَل آخر، غير قوي، لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنَّما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذٍ ترد الاحتمالات التي ذكرها الحافظ – يعني الحافظ ابن حجر في كلامه في «النزهة» في أدلّة رد المرسَل – وكأن الإمام الشافعي يرحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسَل الآخر أن يكون مرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (ص:35)، وكأن ذلك ليغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر، قال: وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي يرحمه الله، فاحفظها وراعها فيما يمر بك من المرسلات التي يذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسليْن، دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.
قال: ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – قد نص أيضاً على هذا الشرط، في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبدالهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة (حديث 405/ 221) فقال ابن تيمية يرحمه الله تعالى: وأما أسباب النزول فغالبها مرسل، ليس بمسند، ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم – يعني أن أحاديثها مرسلة ليست مسندة – والمراسل قد تنازع الناس في قبولها وردها.
وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلِم من حاله أنَّه لا يرسل إلا عن ثقة؛ قُبِل مرسله، ومن عُرِفَ أنَّه يرسل عن الثقة وغير الثقة؛ كان إرساله رواية عمَن لا يُعرف حاله، فهو موقوف، وما كان من المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات؛ كان مردوداً، وإن جاء المرسَل من وجهين كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يُتَصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله -: قلت: ومع أن التحقيق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع ليس بالأمر الهين، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يرد إشكال آخر: وهو أنَّه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفاً، وعليه يُحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويُحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوي الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه.
قال: وهذا التحقيق مما لم أجد من سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى، وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، واستغفر الله من ذنبي، وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسَل الذي تعدد مرسِلوه أحدُ الاحتمالين:
الأول: أن يكون مصدر المرسَلين واحداً.
الثاني: أن يكونوا جميعاً، ولكنهم ضعفاء ضعفاً شديداً ... ، اهـ.
¥