فقبل منه الحافظ ابن رجب روايته الحديث بالمعنى وإن كان متكلماً فيه لأنه فقيه يفهم بما تحيل إليه المعاني، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق برواية الحديث بالمعنى
المسألة الأول: هل يجوز اختصار الحديث.
اختلف العلماء في ذلك:
القول الأول: المنع مطلقاً.
القول الثاني: الجواز مطلقاً.
القول الثالث: التفصيل: وهو أنه يجوز اختصار الحديث من العالم العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله غير متعلق به بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه ثم هذا إذا كان رفيع المنزلة بحيث لا يتطرق إليه في ذلك تهمة نقله أولا تماما ثم نقله ناقصا أو: نقله أولا ناقصا ثم نقله تاماً ... .
من كان هذا حاله فليس له من الابتداء أن يروي الحديث غير تام إذا كان قد تعين عليه أداء تمامه لأنه إذا رواه أولا ناقصا أخرج باقيه عن حيز الاحتجاج به ودار: بين أن لا يرويه أصلا فيضيعه رأساً وبين أن يرويه متهما فيه فيضيع ثمرته لسقوط الحجة فيه والعلم عند الله تعالى ([30]).
قال الخطيب البغدادي: ((والذي نختاره في ذلك انه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم شرط وأمر لا يتم التعبد والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه فإنه يجب نقله على تمامه ويحرم حذفه لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به فلا فرق بين أن يكون ذلك تركاً لنقل العبادة كنقل بعض أفعال الصلاة أو تركاً لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال لا يحل اختصار الحديث)).
ثم قال: ((فان كان المتروك من الخبر متضمناً لعبارة أخرى وأمراً لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه ولا شرطاً فيه جاز للمحدث رواية الحديث على النقصان وحذف بعضه وقام ذلك مقام خبرين متضمنين عبارتين منفصلتين وسيرتين وقضيتين لا تعلق لأحدهما بالأخرى فكما يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين اللذين هذه حالهما رواية أحدهما دون الآخر فكذلك يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين المنفصلين رواية بعضه دون بعض)).
ثم قال: ((وإن خان من روى حديثاً على التمام إذا أراد روايته مرة أخرى على النقصان لمن رواه له قبل تاماً إن يتهمه بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث لقلة ضبطه وكثرة غلطه وجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه لأن في الناس من يعتقد في راوي الحديث كذلك انه ربما زاد في الحديث ما ليس منه وانه يغفل ويسهو عن ذكر ما هو منه وانه لا يؤمن أن يكون أكثر حديثه ناقصاً مبتوراً فمتى ظن الراوي اتهام السامع منه بذلك وجب عليه نفيه عن نفسه وان كان النقصان من الحديث شيئاً لا يتغير به المعنى كحذف بعض الحروف والألفاظ والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى وما لا يغيره من الزيادة والنقصان فان ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك)) ([31]).
قال ابن كثير: ((فالذي عليه صنيع أبي عبد الله البخاري: اختصار الأحاديث في كثير من الأماكن.
وأما مسلم فإنه يسوق الحديث بتمامه، ولا يقطعه. ولهذا رجحه كثير من حفاظ المغاربة، واستروح إلى شرحه آخرون، لسهولة ذلك بالنسبة إلى صحيح البخاري وتفريقه الحديث في أماكن متعددة بحسب حاجته إليه. وعلى هذا المذهب جمهور الناس قديماً وحديثاً)) ([32]).
قال ابن حجر: ((أما اختصار الحديث: فالأكثرون على جوازه، بشرطِ أن يكون الذي يَخْتَصِرُهُ عالماً؛ لأن العالم لا يَنْقُص من الحديث إلا ما لا تَعَلُّقَ له بما يُبْقيه منه، بحيث لا تختلف الدلالة، ولا يختلُّ البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خَبَرَيْنِ، أو يدل ما ذكره على ما حذفه، بخلاف الجاهل فإنه قد يُنْقِص ما له تَعَلُّقٌ، كترك الاستثناء)) ([33]).
المسألة الثانية: تقطيع متن الحديث من أجل تفريقه في الأبواب.
إذا كان المتن متضمناً لعبادات وأحكام لا تعلق لبعضها ببعض فإنه بمثابة الأحاديث المنفصل بعضها من بعض ويجوز تقطيعه وكان غير واحد من الأئمة يفعل ذلك ([34]).
قال ابن الصلاح: ((وأما تقطيع المصنف متن الحديث الواحد وتفريقه في الأبواب: فهو إلى الجواز أقرب ومن المنع أبعد وقد فعله "مالك" و "البخاري: وغير واحد من أئمة الحديث ولا يخلو من كراهية، والله أعلم)) ([35]).
¥