وقال في موضع آخر: ((وليس اختلاف الروايات عيباً في الحديث إذا كان المعنى واحداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحداً)) ([22]).

وقال ابن الصلاح: ((فإن لم يكن عالماً عارفاً بالألفاظ ومقاصدها خبيراً بما يحيل معانيها بصيراً بمقادير التفاوت بينها فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك وعليه أن لا يروي ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير ... .

والأصح: جواز ذلك في الجميع إذا كان عالماً بما وصفناه قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين.

وكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمر واحد بألفاظ مختلفة وما ذلك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ)) ([23]).

وقال المعلمي: ((الخلاف بالرواية مما لا يغير المعنى، كالتقديم والتأخير وإبدال كلمة بأخرى مرادفة لها وجعل الضمائر التي للمخاطب للمتكلم. وغيره فهذا من الرواية بالمعنى. وكانت شائعة بينهم فلا تضر)) ([24]).

وقال العلامة أحمد شاكر: ((والمتبع للأحاديث يجد أن الصحابة –أو أكثرهم- كانوا يروون بالمعنى، ويعبرون عنه في كثير من الأحاديث بعباراتهم، وأن كثيراً منهم حرص على اللفظ النبوي، خصوصاً فيما يتعبد بلفظه، كالتشهد، والصلاة، وجوامع الكلم الرائعة، وتصرفوا في وصف الأفعال والأحوال وما إلى ذلك.

وكذلك نجد التابعين حرصوا على اللفظ، وإن اختلفت ألفاظهم، فإنما مرجع ذلك إلى قوة الحفظ وضعفه. ولكنهم أهل فصاحة وبلاغة، وقد سمعوا ممن شهد أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وسمع ألفاظه.

وأما من بعدهم، فإن التساهل عندهم في الحرص على الألفاظ قليل، بل أكثرهم يحدث بمثل ما سمع، ولذلك ذهب ابن مالك –النحوي الكبير- إلى الاحتجاج بما ورد في الأحاديث على قواعد النحو واتخذها شواهد كشواهد الشعر، وإن أبى ذلك أبو حيان رحمه الله. والحق ما اختاره ابن مالك.

وأما الآن، فلن ترى عالماً يجيز لأحد أن يروي الحديث بالمعنى، إلا على وجه التحدث في المجالس. وأما الاحتجاج وإيراد الأحاديث رواية فلا.

ثم إن الراوي ينبغي له أن يقول عقب رواية الحديث: "أو كما قال" أو كلمة تؤدي هذا المعنى، احتياطاً في الرواية. خشية أن يكون الحديث مروياً بالمعنى. وكذلك ينبغي له هذا إذا وقع في نفسه شك في لفظ ما يرويه. ليبرأ من عهدته)) ([25]).

ما أثر الرواية بالمعنى على الحكم الشرعي:

إن رواية الحديث بالمعنى الصادرة من غير العالم العارف ... إلخ.

قد يسبب هذا إحالة الحديث عن أصله، وهذا ما وقع من بعض الرواة وقد نقل الحافظ ابن رجب في شرحه على علل الترمذي أمثلة ذلك حيث قال: ((وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى.

1 - مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها وهي حائضاً: "أتقضي رأسك وامتشطي" وأدخله في أبواب غسل الحيض. وقد أنكر ذلك على من فعله لأنه يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند النقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام وهي حائض.

2 - وروى بعضهم حديث: "إذا قرأ - يعني الإمام – فأنصتوا" بما فهمه من المعنى، فقال: "إذا قرأ الإمام ولا الضالين فأنصتوا"، فحمله على فراغه من القراءة لا على شروعه فيها.

3 - وروى بعضه حديث: "كنا نؤديه على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم"، يريد زكاة الفطر فصحف "نؤديه" فقال: "نورثه" ثم فسره من عنده فقال: يعني الجد. كل هذا تصرف سيئ لا يجوز مثله)) ([26]).

أما إذا صدر من العالم العارف بالألفاظ ومدلولها، فإنه يقبل منه ما رواه بالمعنى وقد بيّن الحافظ ابن رجب في شرح صحيح البخاري مثال ذلك حيث قال: ((روى حجاج بن أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ركعتين. خرّجه من طريقه ابن سعد ([27]).

وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين.

وحجاج بن أرطاة ([28])، وإن كان متكلماً فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني)) ([29]).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015