فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقها وحدث من حفظه، فربما قلب المتن، وغير المعنى، حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه، ويقلب إلى شيء ليس منه، وهو لا يعلم، فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نعته، إلا أن يحدث من كتاب، أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار)) ([16]).
وقد رد عليه ابن رجب حيث قال: ((وفيما ذكر نظر، وما أظنه سبق إليه، ولو فتح هذا الباب لم يحتج بحديث انفرد به عامة حفاظ المحدثين كالأعمش وغيره، ولا قائل بذلك.
اللهم إلا أن يعرف من أحد أنه كان لا يقيم متون الأحاديث، فيتوقف حينئذ فيما انفرد به. فأما مجرد هذا الظن فيمن ظهر حفظه وإتقانه، فلا يكفي في رد حديثه. والله أعلم)) ([17]).
القول المختار: جواز الرواية بالمعنى بشروط:
والشروط هي باعتبار الراوي والمروي.
أما باعتبار الراوي فيشترط فيه:
1 - أن يكون عالماً عارفاً بالألفاظ ومقصودها.
2 - أن يكون خبيراً بما تحيل معانيها.
3 - أن يكون خبيراً بمقادير التفاوت بينهما.
4 - أن يتثبت ويعرف معناه يقيناً.
أما باعتبار المروي فيشترط:
1 - أن لا يتغير المعنى ولا يكون متناقضاً.
2 - أن يفتي بمعناه وبموجبه فيقول: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو أمر عليه السلام بكذا أو أباح عليه السلام بكذا وهكذا.
قال يحيى بن سعيد: ((أخاف أن يضيق على الناس تتبع الألفاظ لأن القرآن أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحداً)) ([18]).
وقال الترمذي في جامعه: ((فأما من أقام الإسناد وحفظه، وغير اللفظ. فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير الْمعنى.
حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن وائلة ابن الاسقع، قال: إذا حدثناكم على الْمعنى فحسبكم.
حدثنا يحيى بن موسى، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن محمد ابن سيرين، قال: كنت أسمع الحديث من عشرة; اللفظ مختلف والمعنى واحد.
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن عون، قال كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على الْمعاني، وكان القاسم بن محمد، ومحمد ابن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه.
حدثنا على بن خشرم، أخبرنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول، قال قلت لأبي عثمان النهدي: إنك تحدثنا بالحديث، ثم تحدثنا به على غير ما حدثتنا؟ قال عليك بالسماع الأول.
حدثنا الجارود، أخبرنا وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن، قال: إذا أصبت الْمعنى أجزأك ... )).
قال ابن رجب معلقاً على كلام الترمذي: ((مقصود الترمذي رحمه الله بهذا الفصل الذي ذكره ههنا أن من أقام الأسانيد وحفظها وغيّر المتون تغيراً لا يغير المعنى أنه حافظ ثقة يعتبر بحديثه، وبنى ذلك على أن رواية الحديث بالمعنى جائزة، وحكاه عن أهل العلم.
وكلامه يشعر بأنه إجماع، وليس كذلك، بل هو قول كثير من العلماء، ونص عليه أحمد، وقال: "ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى".
وإنما يجوز ذلك لمن هو عالم بلغات العرب، بصيراً بالمعاني، عالماً بما يحيل المعنى وما لا يحيله، نص على ذلك الشافعي)) ([19]).
قال ابن رجب في شرح صحيح البخاري: ((اخْتِلاَف ألفاظ الرواية يدل عَلَى أنهم كانوا يروون الحَدِيْث بالمعنى، ولا يراعون اللفظ، فإذا كَانَ أحد الألفاظ محتملاً، والآخر صريحاً لا احتمال فِيهِ، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هُوَ مَا دل عَلَيْهَا اللفظ الصريح الَّذِي لا احتمال فِيهِ، وأن معناهما عندهم واحد، وإلا لكان الرواة قَدْ رووا الحَدِيْث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة، ولا يظن ذَلِكَ بهم مَعَ علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم)) ([20]).
وقال ابن حزم: ((أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقيناً فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه فيقول: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وأمر عليه السلام بكذا وأباح عليه السلام كذا ونهى عن كذا وحرم كذا والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذا)) ([21]).
¥