فالجواب عن هذا أن يُقال: مِن شرط الحديث الضعيف أن لا يَثبت به حكم خاص يخص صوم يوم معين وصلاة معينة؛ لأن هذا التخصيص حكم شرعي يحتاج إلى دليل صحيح, ولذا لم يثبت الفضل الخاص ليوم عاشوراء ويوم عرفة إلا بأدلة خاصة صحيحة ولم نكتف بعموم الأدلة في فضل الصوم.
وبهذا يسلم قول الجمهور ممن أورد عليه خصوص بعض صلوات أو صيام رُويت فيها أحاديث ضعيفة, لكن لمَا كان هذا الجنس مِن الفضل ورد خاصّاً مقيداً لم نحتج به؛ لأنّ هذا التخصيص حكم شرعي, ولا بد في الحكم الشرعي أن يثبت بسند يحتج به وإن كان في فضائل الأعمال, وهذا القيد -كما تقدم- يَنبغي أن يُضاف إلى شروط رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال, وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية: في بعض كلامه, والشاطبي: في كتابه الاعتصام فهو قيد مهم.
والحديث إذا توفرت فيه الشروط المتقدمة مع هذا القيد المهم, كان العمل بهذا الحديث الضعيف أمراً حسناً؛ لِما ثبت بإسناد صحيح عند الإمام أحمد: عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ, أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ, وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ, وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ, فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ, وَإِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ, , وَتَنْفِرُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ, وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ, فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ) , وفي هذا الحديث إشارة إلى أنَّ مَن سمع عن النبي rحديثاً وعَمِل به رجاء ما فيه مِن الثواب, مما تلين له أبشارنا وأشعارنا ونرى أن نفوسنا قريبة منه, فهو مِن النبي r أقرب وأولى, والعبد حينما يعمل بمقتضى هذا الحديث يرجو الثواب بحسن ظنه بالله عز وجل ليأجره, وقد قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) , وهذا مما لا يخفى في الحديث الضعيف بقيوده المتقدمة, والله أعلم.
ومِن الحجة للجمهور أيضاً: أنَّ مَن يعمل بحديث ضعيف بشروطه, فإنَّ غاية ما يحصل مِن عمله بهذا الحديث أنّه دافع له ومحفّز للعمل بشيء قد ثبت أصله, فمشروعية هذا العمل ثابت عنده سواء ورد هذا الحديث الضعيف أو لم يرد, مثاله كثير مِن الأخبار التي وردت في فضائل الأذكار, ففي بعضها ضعف, لكن ثبت أصل مشروعيتها بأحاديث صحيحة, فمثلاً لا يُنكر على من لازم ذكراً مُعيّناً دعاه إلى ذلك حديث ضعيف وأصل مشروعية هذا الذكر قد صحّت به الأخبار, كما لو داوم على: (لا حول ولا قوة إلا بالله) أو (سبحان الله) , ونحوهما مِن الأذكار.
ثم نقول أيضاً: إنّ الأحاديث الضعيفة التي جرى البحث فيها, هي غالباً مما يَختلف فيها أهل الحديث, منهم مَن يُصححها أو يحسنها بشواهدها, ومنهم مَن يُضعفها؛ لكونه رأى أنّ شواهدها لا تقوى على تصحيحها أو تحسينها, أو للخلاف في رجل معين في أسانيدها يختلف أهل العلم فيه, يحصل بذلك اختلافهم في تصحيحه أو تضعيفه, أما الأحاديث التي يتفق أهل العلم على تضعيفها فهذه لا يُحتج بها مُطلقاً؛ لأنها غالباً لا تسلم مِن راوٍ متروك أو متهم أو ضعيف جداً.
وبهذا يَتبين أنَّ مَن عمل بالحديث الضعيف الذي تقدم وصفه مما يختلف فيه أهل العلم مسألة اجتهادية في التصحيح والتضعيف كمسائل الفقه, فمَن قلّد أحداً مِن أهل العلم في العمل بهذا الحديث الضعيف وكان غيره يخالفه, فلا يُنكر عليه؛ لأن مُقَلَّده لا ينكر عليه؛ لأن اجتهاده دائر بين الصواب والخطأ, فإن أصاب فله أجران, وإن أخطأ فله أجر, حتى في الأحاديث التي تكون مِن طريق راوٍ ضعيف مشهور بالضعف والحفاظ على توهين أمره وليس متروكاً؛ كعلي بن زيد بن جُدعان, فإن بعض أهل الحديث يُصحح له, وكابن لهيعة فإن بعض أهل الحديث يُقوي روايته مطلقاً حتى مِن غير رواية العبادلة, فمَن قلّد مَن قوّى رواية أمثال هؤلاء في عَمِل ثبت أصله بالشروط المتقدمة لا يُنكر عليه, وبهذا يَتحرر أنّ هذه المسألة مِن المسائل التي لا إنكار فيها, والله أعلم.
¥