فإن مثل هذه الرواية التي لا توجد في أصول المتقدمين فلا اعتبار بها لغرابة الإسناد من أوله إلى آخره، ولهذا قال الحاكم معلقاً على هذا الحديث: " هذا حديث عال غريب الإسناد والمتن، له شاهد من حديث طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة " (6).
السابق من النقاد ليس مسؤولاً عن نقد
ما أغربه الراوي اللاحق
وفي الواقع أن الإمام الطبراني لن يكون مسؤولاً عن الغرائب التي أغرب فيها من جاء بعده من الرواة وهماً، إذ لا يمكن له الإطلاع على ذلك، وبالتالي يكون من العبث بالتراث ومنهج النقاد في التصحيح والتضعيف أن يعترض أحدنا على ما نصّ عليه أحد النقاد من الغرابة بحجة أنه ورد في كتاب أحد المحدثين اللاحقين بإسناد آخر (7). ولو ذكر صاحبنا المحقق حديثاً أو سنداً من كتب المتقدمين من معاصري الإمام الطبراني مثلاً، مما يكون متابعاً لسنده لكان الباحث رجلاً منهجياً.
وذلك لأن الرواية في العصور المتأخرة لم تعد معتمدة، وإنما كان اعتماد المحدثين فيها من أصحاب الروايات على ما رواه المتقدمون. ولهذا فإن كثيراً من المحدثين في أواخر مرحلة الرواية، كالبيهقي والبغوي والحازمي وغيرهم من المحدثين في مرحلة ما بعد الرواية التي انقطعت فيها ظاهرة الرواية كانوا يولون بالغ العناية في عزو ما رووه من الأحاديث إلى من رواه من المتقدمين. يقول الإمام البيهقي في هذا الصدد:
" توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن يكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحّت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها قال فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم " (8)، وأكد ذلك الإمام ابن الصلاح في مقدمته (9)، وهذا معنى قول الحاكم أيضاً " فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته " (10).
ولذلك لا ينبغي لأمثالنا التسرع إلى الاعتراض على نقاد الحديث في حكمهم على حديث ما بأنه "غريب" أو " تفرد به فلان"، أو " لا يعرف إلا بهذا الإسناد تفرد به فلان "، أو غير ذلك مما يفيد الغرابة أو الضعف، بما يروى في كتب الفوائد أو الغرائب أو الكتب التي ظهرت في أواخر مرحلة الرواية، بحجة أنه يفوت على كبار المحدثين من الطرق والروايات ما قد حفظه الآخرون. نعم قد يفوت على بعضهم ما عند الآخرين، وأما أن يفوت حديث على المحدثين المتقدمين جميعاً ثم يحفظه بعض المتأخرين فلا (11). ومعلوم بدهياً أن اللاحقين عالة على السابقين في مجال الروايات،والحديث إنما يصل إلى اللاحق عن طريق السابق.
ولهذا قال الحاكم حين روى ذلك الحديث الذي رواه الطبراني بطريق آخر: " هذا حديث عال غريب الإسناد والمتن ". فهذا الحديث الذي رواه الحاكم ثم البيهقي لا يرد غرابة رواية صالح مرفوعاً.
وفي ضوء ذلك فقول المحقق (جزاه الله تعالى خيراً) إن رواية البيهقي تؤكد أن صالحاً لم ينفرد به، بل تابعه غير واحد عند البيهقي قول غير منهجي.
الحواشي
(1) هامش كتاب " نعمة الذريعة في نصرة الشريعة " ص: 86 للعلامة إبراهيم الحلبي، تحقيق علي رضا بن عبد الله بن علي رضا (دار المسير).
(2) زوائد الهيثمي 2/ 821 تحقيق حسين الباكري، دار النشر: خدمة السنة والسيرة، المدينة المنورة، سنة 1413هـ.
(3) انظر التخريج في تعليق المحقق الذي نقلناه في الصفحة السابقة.
(4) قسم العلل 2/ 340 (طبعة بولاق).
(5) المستدرك 2/ 503، وشعب الإيمان 4/ 289.
(6) مستدرك الحاكم 2/ 503.
(7) هذا من الأخطاء الشائعة بين كثير من المتأخرين والمعاصرين، ولي بحث حول هذا الموضوع بعنوان: مسألة التفرد وأبعادها النقدية.
¥