3ـ وهل من مثقف يجرد من فكره ما يقيم به البناء الحضاري للإسلام، وبيان عدله من غير أن تستهوله مفردات الأعداء أو تستهويه مصطلحات الغاشين، ويقدم للعالم مشروعا يحلق بجناحيه الروحي والمادي في الآفاق، ولا يطير إلا بهما معا لا بالمادية التي أرهقت أصحابها، ولا بتقديم إسلام عاجز عن مجاراة التقدم، ويمشي أتباعه الهوينا كما يمشي الوجى الوحل.

أحسب أنني لو خاطبت المعنيين بذلك لفروا من هذه الثقافة فرارهم من الأسد، لأن الحدث أصبح عند قوم غنيمة، يدورون مع الدرهم حيث دار، وعند آخرين وسيلة دعائية وإعلانية بل بوقا يردد أفكارهم، وعند طائفة ثالثة ما لا أذكره من اللهو، وحق للعاقل أن يخاصم هذه المزريات، ولكل وجهة، والله المستعان.

إلى الديان يوم الحشر نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم

تريم بين مدرستين:

وبعد هذه الشجون فإنني لست عاريا من معرفة تريم تاريخا وفكرا، وأستطيع أن أجري فرس الرهان في هذا المضمار فأكون السابق إن شاء الله، ودعونا نعرج على مدرستين متضادتين شهدتهما تريم، يبدون إحداهما، ويخفون كثيرا من معالم الثانية، وهما جديرتان بالوقوف عندهما.

الأولى: مدرسة الفقهاء القراء الذين عاشوا في أكناف تريم في منتصف القرن السادس الهجري، وورثوا الإباضية بحضرموت، وهي مدرسة رفع القواعد منها الفقيه يحي بن سالم أكدر، وآزره العلامة محمد بن علي القلعي، وكانت علومها فقه الشافعية، وجمع الأحاديث النبوية، والعناية بالقراءات القرآنية، والمسائل اللغوية، وقد ترجم المؤرخ ابن سمرة الجعدي لأعلامها في طبقات فقهاء اليمن، وانتعش أمر العلوم السنية تحت رعاية سلاطين الدولة القحطانية في عهد السلطان راشد بن شجعنة وابنيه شجعنة وعبد الله الذي شارك في طلب الحديث النبوي والرحلة له، وتخرج من هذه المدرسة فقهاء أجلاء منهم الشيخ سالم بن عبد الكريم بافضل وعلي بن أحمد بامروان وعبد الرحمن بن عبد الله باعبيد وعلي بن محمد باحاتم وغيرهم ممن قال فيهم نشوان الحميري ـ مع اختلافه معهم ـ حين زار تريم:

وكم في تريم من إمام مهذب ... وسيد أهل العلم يحي بن سالم

والثانية: مدرسة التصوف التي استلمت مقاليد الحياة الفكرية بعد الفقهاء القراء، وفاحت منذ النشأة مجاراة الغلاة في دعاوى المعراج والخوارق والقطبية بعد لبس لباس الصوفية، وعدم الانصياع للواقع ولا الذوبان فيه كما يعبر أبو بكر العدني المشهور بهذا، ويردف بأن الفقيه المقدم كان زاهدا في كافة مظاهر الحياة الفكرية والسياسية القائمة في الواقع. ([2] ( http://www.soufia-h.net/newthread.php?do=postthread&f=5#_ftn2) ).

يعني الزهد في علوم مدرسة الفقهاء القراء القائمة على سوق البحث، ولذا استنكفوا عن الدليل، وعاجوا على متاهات فلسفية وهذا لا يكلف سوى الرياضية الفلسفية وربما وصل إلى درجة القطبية جاهل أمي، ومن هنا نشأ الغلو في أقطاب الطريقة، فشيدت القباب، وأقيمت الزيارات، وألفت المناقب التي تنضح بمفردات الغلاة.

فتنة الشطح:

وكثرت دعاوى الشطح في الفكر الصوفي الحضرمي حتى قال حسين بن عبد الله بالحاج بافضل ـ ت 979 هـ ـ إذ سئل عن حال الفقيه عمر بامخرمة ت 977 هـ (وددت لو أن طائفة من الإفرنج ظهرت بحضرموت ولا هو! وذلك لأن الإفرنج فتنتهم ظاهرة يعرفها الخاص والعام، وأهل الله إذا شطحوا ففتنتهم أعضل من كل فتنة لا سيما في حق العوام والجهال)!! ([3] ( http://www.soufia-h.net/newthread.php?do=postthread&f=5#_ftn3) ).

والعلة تدور مع معلولها فحيث يوجد الشطح المراد فالفتنة أدهى من فتنة الإفرنج على ما قاله الشيخ حسين وهو الذي عاش فصول هجوم البرتغاليين على الشحر بأربع عشرة سفينة في ربيع الآخر من سنة 929 هـ، فدخلوا المدينة، ونهبوا بعض بيوتها، وعاثوا بها فسادا، وصالوا بها فتصدى لهم أهلها بقيادة ولاتها وعلمائها وقتل أخوه الفقيه أحمد، ومع هذا نراه يحذر من خطر الشطح الذي بلي به أهل التصوف، ويذكر ما كان من حال بامخرمة الذي ذهب لينكر على عبد الرحمن باهرمز السماع وحضور النساء الحسان فيه فسقط في الفتنة وتحكم له سنة 913 هـ وهو القائل:

يا علي باح في شرع الهوى دم من باح ... والمحبين قالوا كتم الاسرار ذباح

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015