وما كانَ ذَلِكَ من صنع المتقدمين إلا من أجل الغربلة والفحص والتنقية للسنة، لذا يقول يحيى ابن معين: ((كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً)).
فعلى هذا يتضح لنا أن المتقدمين لم يتركوا حديثاً قوياً إلا ودونوه في دواوينهم، وأدخلوه في توالفيهم.
وهذا أحسن ما نفسر به كلام محمد بن يعقوب الأخرم: ((قلما يفوت البخاري، ومسلماً مما يثبت من الحديث)).
ومما يختلف فيهِ الحال بين منهج المتقدمين والمتأخرين ما أحدث موخراً من قولهم: صحيح على شرط الشيخين، أو على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، وهذه البلية أول من أظهرها الحاكم في مستدركه ثم انتشرت قليلاً بين المتأخرين حتى شاعت عندَ بعض عصريينا. وعند استخدامهم لهذه الطريقة، أو المصطلح يشار به إلى أن شرط الشيخين معروف لكل من الناس. وهو أمر خلاف الواقع؛ لأن من حاول هذا لم يحاوله إلا عن طريق الاستقراء كما فعل بعض من كتب في شروط الأئمة الستة أو الخمسة، وإن الحق الذي نعتقدهُ، ولا يتخللهُ شك أنا لا نستطيع الجزم بالطريقة التي تم إنتقاء الشيخين البخاري ومسلم لها، فنحن لا نعلم كيف انتقى البخاري من حديث سفيان، أو الزهري، أو يزيد بن زريع، ولا ندري كيف انتقى من أحاديث سالم أو غيره من الثقات الأثبات، ثم إنا نجزم بأنهما لم يريدا استيعاب جميع مارواه الثقة، بل ليس كل مارواه الثقة صحيحاً.
إذن فصنيع الشيخين في أحاديث الثقات صنيع انتقائي وليس شمولياً، ونحن لا نعرف الأسس والموازين التي من خلالها انتقى الشيخان أحاديث هؤلاء الثقات.
وما دام الأمر كذلك: فإن قصورنا يكون أكثر وعجزنا يكون أكبر، أما طريقة انتقاء الشيخين من حديث من في حفظهم شيء مثال: إسماعيل بن أبي أويس، والحسن بن ذكوان، وخالد بن مخلد القطواني.
قالَ الحافظ ابن حجر: ((روينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج لهُ أصوله، وأذن له أن ينتقي منها وأن يعلم لهُ ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه من صحيح حديثة لأنه كتب من أصوله. (هدي الساري: 391).
وقال الزيلعي في نصب الراية 1/ 341: ((خرج في الصحيح لخلق ممن تكلم فيهم، ومنهم جعفر بن سليمان الصبغي، والحارث بن عبد الإيادي، وأيمن بن نايل الحبسثي،، وخالد مخلد القطواني وسويد بن سعيد الحدثاني، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وغيرهم، ولكن صاحبا الصحيح _ رحمهما الله _ إذا أخرجا لمن يتكلم فيهِ فانهم ينتقون من حديثه)).
وقال ابن القيم في زاد المعاد 1/ 364 مجيباً عما عيب على مسلم إخراج حديث من تكلم فيهِ: ((ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيهِ)).
وإن من الأضرار والمفاسد التي تنجم من استخدام مصطلح: على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما، هوَ تصحيح جميع الأحاديث المروية عن الرجال الذين أخرج لهم مجتمعين أو منفردين وهو أمر خطير، إذ ليس جمع الأحاديث التي رجالها رجال الشيخين ترتقي إلى هذه المرتبة بل ربما كانَ منها ما هوَ معلول بعلل قادحة سواء كانت ظاهرة أو خفية وهذا مما لا يدركه إلا من رزقه الله فهماً واسعاً واطلاعاً غائصاً، ونظراً ثاقباً، ومعرفة تامة بأحوال الرواة والطرق والروايات أو حفظ جملة كثيرة من المتون حتى اختلطت بلحمه ودمه.
ومع كل ما ذكر: فإن بعضهم يتساهل في مجرد كون الرواة من رواة الشيخين، ولا يبالي في كيفية تخريج الشيخين للرواة أعني برواية الواحد عن الآخر، كمن خلط في رواية هشيم عن الزهري، وصحح على مقتضاها بأنها على شرط الشيخين، والصحيح أن البخاري ومسلماً لم يخرجا عن الزهري من طريق هشيم، وكذلك سماك عن عكرمة وأمثال ذَلِكَ كثيرة مما حصل فيهِ خطأ وخلط للمتأخرين غير قليل.
ومن أعظم المفاسد لاستخدام مصطلح على شرط الشيخين أننا سنقوم بإلغاء مبدأ الانتقاء، ثم نقوم بتصحيح أحاديث من في حفظهم شيء من رجال الصحيحين؛ لذا ربما أتى المتأخر فصحح أحاديث هؤلاء وغيرهم بحجة أنهم على شرط الشيخين، وهذا بلا شك مخالف لصنيع المتقدمين؛ بل هوَ نسف لقواعد المتقدمين.
وأنا إذ أكتب هذا الكلمات مفرقاً بين منهج المتقدمين والمتأخرين، أنما هو رأي ورأي شيخي الدكتور بشار، وقد استفدت في بحثي هذا من كلامه في مقدمته النافعة لتأريخ مدينة السلام بغداد – حرسها الله-ومقدمته لجامع الترمذي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 0
ـ[خالد الفارس]ــــــــ[14 - 03 - 03, 01:44 م]ـ
جزاك الله خير الجزاء يا دكتور ماهر على هذا المقال المفيد
ـ[هيثم حمدان]ــــــــ[14 - 03 - 03, 05:34 م]ـ
أحسن الله إليك شيخنا الدكتور ماهر.
مقال مليء بالفوائد النفيسة.
¥