ومن الأمور التي جعلت التباين كبيراً بين منهج المتقدمين والمتأخرين أن المتأخرين قد بالغوا في تصحيح الأحاديث وتقويتها بالشواهد والمتابعات، لكن كانَ علينا أن ندرك في الوقت نفسه أن أئمة هذا الفن من المصنفين في علم الحديث قد أهملوا كثيراً من الطرق الواهية والتالفة والمعلولة والمركبة التي كانوا يحفظونها لا سيما عندَ التصنيف، وإلا فكيف نفسر تركهم لمئات ألوف من الأحاديث التي كانوا يحفظونها من مثل الإمام أحمد الذي كانَ يحفظ ألف ألف إسناد ولم يستوعب كتابه ثلاثين ألف إسناد، ومن مثل الإمام البخاري الذي كانَ يحفظ ستمئة ألف سند ولم يتجاوز كتابه تسعة آلاف سند، وعلى غرارهما الإمام مسلم وأبو داود وأبو حاتم وأضرابهم من المحدثين.

إذن كثير من الأسانيد التي اغتر المتأخرون بتقوية بعضها ببعض إنما هي أسانيد لا قيمة لها ولا تصلح للمتابعة والتقوية، وهذا المنهج يظهر جلياً في تخريجات العلامتين الألباني وشعيب مع أن جهدهما مشكور في خدمة السنة، وعلى هذا يتعّين على الناقد أن ينظر بعين فاحصة بصيرة إلى سبب ترك المحدثين الأوائل لهذه الكمية من الأحاديث، وأن ينظروا إلى كل حديث أو طريق لم يوجد إلا في المصنفات المتأخرة وليس لها أصل في المؤلفات السابقة، فعلى الباحث أن يمعن النظر في دراسة هذه الأحاديث للوقوف على السبب الذي جعله لا يوجد إلاّ في هذه المصنفات المتأخرة، وممّا يقوي هذا أن حديث عبّاد بن العوام، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد في الوصية لطلبة العلم كانَ موجوداً في الأعصر المتقدمة يؤيده سؤال مُهنأ الإمام أحمد عنه وإجابته بقولِهِ: ((ما خلق الله من ذا شيئاً))، ومع هذا فإن أحداً من المصنفين المتقدمين كأصحاب المسانيد والجوامع والمصنفات والسنن لم يخرجوه في كتبهم فبقي هذا السند التالف متروكاً مختفياً حتى ظهر القرن الرابع، وإن مما يؤسف عليهِ أن المتأخرين لتقويتهم لبعض الأحاديث في المتابعات والشواهد، حينما ينقلون حديثاً من كتب التراجم لا يتنبهون إلى أن من وضعها في هذه الكتب، إنما مرادهم في الأعم الأغلب حرصهم أن تقع لهم هذه الأحاديث، من طرق من ترجموا لهُ بغض النظر عن قوة هذه الأحاديث وعما تمثله من قيمة حديثية، فيغفل المتأخر الذي يصحح بالمتابعات والشواهد، عن هذه الطريقة وهذا المقصود، وربما تكون هذه الأسانيد ضعيفة أو واهية، ومراد المخرّج لها سوق تلك الأحاديث في ترجمة المترجم لهُ، فعلى هذا يتعين على الباحث الناقد، أن يعلم أن إيراد الحديث بكتب التراجم عندَ الذين كتبوا في التراجم لهُ غايات وأسباب عديدة، ومن تلك الأسباب، أنها تهدف في الأعم الأغلب إلى تقويم هذا الراوي وبيان حاله من قوة أو ضعف، وأدل دليل على هذا أنهم لم يضعوا هذه الأحاديث في كثير من الأحيان في الكتب الخاصه بالمتون، وأحسن مثال على ذَلِكَ صنيع الإمام البخاري؛ إذ ألف كتابه الصحيح ليكون خاصاً بالأحاديث الصحيحة، وألف كتابه التاريخ ليكون حاكماً على الرجال، وأحوالهم ولم يكن هدفه في التأريخ كهدفه في الصحيح، وعلى طريقة الإمام البخاري، سار تلميذه وخريجه مسلم بن الحجاج فألف كتابه الصحيح، وخصّهُ بالأحاديث الصحيحة، وألف كتابه التمييز وخصّه لنقد الأحاديث المعلولة، أما أبو داود فقد أراد أن يورد في كتابه السنن

الصحيح، وما يشبهه عنده مما يمكن أن يستدل به الفقيهُ في استنباط الأحكام الشرعية، مع أنه يبين علل بعض الأحاديث، أما الترمذي في كتابه الجامع، فأراد نقد أدلة الفقهاء، وبيان صحيحها من سقيمها.

أما كتاب الضعفاء للعقيلي، والكامل لابن عدي فقد اشتملت على أحاديث ما أخطا فيهِ الراوي. إذا كان صنيع المتأخرين في اعتماد كثير من أحاديث كتب التراجم والمشيخات والفوائد، التي فيها تصريح المدلسين بالسماع، أو ما أشبه ذَلِكَ من رفع الموقوف، أو وصل المرسل، أو اتصال المنقطع هوَ أمر خطير، يؤدي إلى مخالفة المتقدمين كالإمام أحمد، والبخاري، وأبي حاتم،

والنسائي، والدارقطني، وغيرهم من حذاق هذا الفن.

إذن فحفظ المتقدمين لمئات ألوف من الأسانيد ثم تركها، وعدم تصنيفها يدلُ على أنها من تركيب الكذابين والهلكى والضعفاء والمتروكين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015