وإن من أوجب الواجب على المتأخرين أن يحاولوا فهم كلام المتقدمين بالتعليل، ومع هذا ليس كل أحد منا أو أي باحث يستطيع أن يعلل أحكامهم ويفهم سبب ما ذهبوا إليه، إلاَّ من رزقه الله فهما واسعاً واطلاعاً كبيراً، واعتاد على معاودة النظر في كلام الأئمة المجتهدين من أهل الحديث ثم أمعن النظر في كتب العلل والرجال والتخريج مع ممارسته النقد والتعليل.
ولما كانَ الأمر كذلك يجب تقديم منهج المتقدمين على المتأخرين. ويجب اعتبار أقوال الأئمة المتقدمين أيما اعتبار في تعليل الأحاديث أو تصحيحها ونقد متونها. ويجب أن يعتبر ذَلِكَ أقصى غاية الاعتبار مع التحرز من مخالفتهم في أحكامهم لا سيما عندَ اجتماع كبرائهم على أمر في التصحيح والتضعيف والتجريح. وأقوال المتقدمين ثمينة غالية لا ينبغي التفريط بها وإهمالها بحجة الاكتفاء باتباع القواعد التي في كتب المصطلح.
وربما نُسأل إذا كانَ الأمر كذلك فمتى يسعنا مخالفة المتقدمين؟
وجوابه:أننا يحق لنا ويسعنا أن نخالف بعض المتقدمين إذا اختلفوا وتباينت وجهات نظرهم، فعندها ننظر إلى الأدلة والأسباب والقرائن والمرجحات ونعمل الرأي والاجتهاد نحو طريقتهم بجنس مرجحاتهم وقرائنهم وقواعدهم التي ساروا عليها.
وما ذكرناه نقوله مع إيماننا العميق بأن التصحيح والتضعيف من الأمور الاجتهادية التي تباينت فيها القدرات العلمية والمكانة التي يتمثل بها الناقد مع المقدرات الذهنية وظهور المرجحات والقرائن لكل واحد.
ومن الأمور التي جعلت التباين واضحاً بين منهج المتقدمين والمتأخرين، وكون المتأخرين على أمور خالفوا فيها المتقدمين، ومن ذَلِكَ: قبول زيادة الثقة مطلقاً؛ فقد شاع وانتشر واشتهر عندَ المتأخرين قبول زيادة الثقة مطلقاً، وهذا المنهج اشتهر منذ القرن الخامس الهجري.
قالَ الخطيب في الكفاية (424 - 425 ه، 597 ت): ((قالَ الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث: زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي أو لا يتعلق بها حكم وبين زيادة توجب نقصاناً من أحكام تثبت بخبر ليست فيهِ تلك الزيادة، وبين زيادة توجب تغيير الحكم الثابت أو زيادة لا توجب ذَلِكَ وسواء كانت الزيادة في خبر رواه راويه مرة ناقصاً ثم رواه بعد وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة قد رواها غيره ولم يروها هوَ)).
وقد قلده النووي تقليدا تاماً تنظيراً وتطبيقاً، قالَ السخاوي: وجرى عليهِ النووي في مصنفاته. فتح المغيث 1/ 234. بل قالَ النووي: ((زيادات الثقة مقبولة مطلقاً عندَ الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول)) شرح صحيح مسلم 1/ 25.
وهذه النقول الجازمة لم يقل بها الجماهير من المتقدمين مع كل هذا فقد اغتر بنقل الخطيب والنووي عدد غير قليل من العلماء، بل أصبح قبول زيادة الثقة منهج أغلب المتأخرين.
والأخذ بهذه القاعدة الشاذة المنكرة بهذا التوسع غير صحيح، بل هوَ مخالف ومباين لمنهج المتقدمين، ومن خلال بحثي العميق في كتب العلل والجرح والتعديل والتخريج والنظر في كلام المتقدمين، وجدت أن مدار ذَلِكَ على قوة القرائن والمرجحات، ومن تلك القرائن والمرجحات:
اعتبار الأوثق والأحفظ والأكثر والأشد ملازمة والأطول صحبة والأشد عناية بحديث ما وما إلى غير ذَلِكَ من المرجحات والقرائن.
ومعرفة المتقدمين للزيادات واسعة، ومعرفة صحيحها من سقيمها أمور ميسور عليهم؛ إذ حفظوا مئات من الألوف من طرق الأحاديث وطافوا في شتى أنحاء المعمورة من أجل التنقيب والتنقير عن الحديث النبوي الشريف، وفتشوا إيما تفتيشٍ عن أحوال الرواة والزيادات فكانت السنة النبوية في صدور أولئك الحفاظ من المتقدمين وتدوين السنة وأحوال الرواة، وقد واكبوا الرواية وتدوين السنة وأحوال الرواة وقد دونت الكتب الحديثية بشتى أنواعها في كتب الجوامع والسنن والمصنفات والمسانيد والمعاجم والأجزاء والفوائد؛ لذا لم يفت المتقدمين شيء من مورث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ بل إن المتقدمين لم يكتفوا بسماع الحديث مرة أو مرتين بل كانوا يرحلون من أجل العلو والتأكد من الحفظ وكانوا يتذاكرون المتون والأسانيد والعلل والزيادات وأوهام الرواة.
¥