شيوخهم، فنجد الثقة في بعض الأحيان يكون ضعيفاً في شيخ معين أو في روايته عن أهل بلد معين وما أشبه ذَلِكَ، ونجد الضعيف في بعض الأحيان يكون ثقة في بعض شيوخه؛ لشدة ملازمته لهم أو مزيد عنايته بضبط أحاديثهم، وأُمثّلُ لهذا التنظير بما رواه ابن سعد في الطبقات 1/ 456، والترمذي في الشمائل (117)، والعقيلي في الضعفاء 3/ 21، وابن حبان (6397)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي ?: 117، والخطيب في تأريخ بغداد 11/ 293، والبغوي في شرح السنة (3109)

و (3110)، من طريق عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قالَ: ((كانَ النبي ? إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه)).

هذا الحديث قوّى إسناده العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان

(6397)، وحسّن إسناده في تعليقه على شرح السنة للبغوي (3109) و (3110)، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (717)، بكثرة طرقه وشواهده، وعنوا بضعف من رواه عن الدراوردي، فذكروا المتابعات، وبعد البحث والنظر والتفتيش تبين أن العلامتين الأرناؤوط والألباني لم يتنبها إلى علته، فهوَ معلول بعبد العزيز بن محمد الدراوردي الثقة، وفيه من هذا الوجه علتان:

الأولى: إن الإمام أحمد أشار إلى ضعفه في روايته عن عبيد الله بن عمر العمري خاصة، فقالَ فيما نقله عنه أبو طالب: ((وربما قلب حديث عبد الله بن عمر -وهو ضعيف- يرويها عن عبيد الله ابن عمر)) الجرح والتعديل 5/ الترجمة (1833)، ولذلك قالَ النسائي: ((حديثه عن عبيد الله بن عمر منكر)) تهذيب الكمال 18/ 194، وقول النسائي هذا نقله الحافظ ابن حجر في التقريب.

الثانية: إن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف، قاله الإمام أحمد فيما نقله العقيلي، قالَ: ((حدثني الخضر بن داود، قالَ: حدثنا أحمد بن محمد، قالَ: قيل لأبي عبد الله: الدراوردي يروي عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كانَ يرخي عمامته من خلفه. فتبسم، وأنكر، وقال: إنما هوَ هذا موقوف)) الضعفاء الكبير 3/ 21، ونقله الذهبي في السير8/ 367، والرواية الموقوفة: أخرجها ابن سعد الطبقات 4/ 174، عن وكيع، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه اعتم.

ورواه ابن سعد الطبقات 4/ 175، عن غير العمري موقوفاً كذَلِكَ.

إذن لزمنا أن نتبع المنهج العلمي الذي سار عليهِ جهابذة هذا الفن من أهل الحديث من العلماء الأوائل أصحاب القرون الأولى الذين حفظوا لنا تراث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم حفظوا لنا السنة برمتها في صدورهم ودواوينهم.

ثم إن المتقدمين قد رسموا لمن جاء بعدهم طريقاً واضحاً بيناً سليما يمتاز بالدقة والنظر التام. فعلى المتأخرين أن يعتبروا أقوال المتقدمين أقصى حدود الاعتبار ليحصلوا على المنهج العلمي والمعيار البحثي الأصل، وذلك من طريقة سرد المتقدمين للأحكام ونقدهم لطرق الحديث ومتونه.

وإن مما يؤكد لنا صحة المنهج البحثي للمتقدمين، أنهم سبروا الطرق، وجمعوا أحاديث الرجال، وحكموا على المتون والرجال بعد معاودة النظر والمذاكرة والبحث والموازنة والمقارنة والنظر الثاقب بعين الإنصاف. ثم بعد كل هذا الجهد، عرضوا هذه الأحكام وتلكم النتائج على ما حفظوه من ثروة هائلة من تراث هذه الأمة. وهذه الثروة تتمثل بحفظ الجم الغفير من المتون والأسانيد المتكررة التي بلغت مئات ألوف من الأسانيد وعشرات الألوف من المتون حتى انتهوا إلى أحكامهم الصحيحة التي توصلوا إليها بعد إفراغ جهدهم فكانت أحكامهم صادرة نتيجة دراسات وأبحاث قل نظيرها مع دقة الميزان النقدي الذي تمتعوا به؛ لكثرة حفظهم للأحاديث واعتيادهم عليها واختلاطها بدمهم ولحمهم، بل إن ما يحكمون عليهِ من أحاديث لم يكونوا يعرضونه على ما حفظوه من أسانيد فحسب، بل يعرضونها كذلك على ما رزقهم الله به من معرفة واسعة في الفقه؛ إذ لم يكونوا محدّثين فحسب بل كانوا فقهاء محدّثين، والفقه عندهم ضروري؛ إذ كيف يحكمون على الحديث وعدم المخالفة القادحة شرط، والمخالفة ليست قاصرة على مخالفة الحديث لحديث آخر بل هوَ أوسع من ذَلِكَ، فمن ذَلِكَ المخالفة لآية أو إجماع أو سنة ثابتة أو قاعدة متفق عليها، وما أشبه ذَلِكَ من المخالفات.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015