وبعد المتابعة والبحث وجدنا أن تضعيف الإمامين الجليلين لهذا السند كان مبنياً على أسس علمية رصينة إن دلت على شيء فإنها تدل على قوة ملاحظة أئمة الحديث من المتقدمين وبعد نظرهم وإحاطتهم بطرق الحديث كافة، مع مراعاة حالة الرواة ومدى ضبطهم للأحاديث؛ إذ إن الإمام الجهبذ علي بن المديني عدَّ هذا الإسناد من منكرات محمد بن إسحاق واتضح لنا أن محمد بن إسحاق قد خالف من هم أحفظ منه لرواية الزهري؛ إذ إن هذا الحديث روي من طريق شعيب بن أبي حمزة عند أحمد 6/ 407، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3222)، والنسائي 1/ 100 - 101، والطبراني 24/ (493)، والبيهقي في السنن 1/ 129 وفي الخلافيات، له (504)، وابن عبد البر في التمهيد 17/ 188، ويونس بن يزيد الأيلي عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3227)، والطبراني24/ (494)، وابن أبي ذئب عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3223)، والطبراني 24/ (495)، وعبد الرحمان بن خالد بن مسافر عند الطبراني 24/ (492)، وعقيل بن خالد عند البيهقي في السنن 1/ 132 وفي الخلافيات، له (505)، هؤلاء جميعهم رووه عن الزهري، عن

عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، أنه سمع عروة بن الزبير: ((ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يتوضأ من مسّ الذكر إذا أفضى إليه الرجل بيده فأنكرت ذلك عليه، فقلت: لا وضوء على من مسه، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما يتوضأ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَيتوضأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ)) .. )).

وهذا هو الصواب؛ لأن محمد بن إسحاق قد خالف في هذا الحديث من هم أوثق منه في الزهري ومن هؤلاء شعيب بن أبي حمزة الذي قال عنه ابن معين: ((شعيب أثبت الناس في

الزهري .. )) تهذيب الكمال 3/ 396، إضافةً إلى المتابعات الأخرى لشعيب، وقال البيهقي عن هذا الطريق عقب رواية عقيل بن خالد، عن الزهري: ((هذا هو الصحيح من حديث

الزهري)).

أما طريق ابن إسحاق فهو وهم منه ولم يتابعه عليه أحد إلاّ متابعة واهية عند ابن عدي في الكامل 1/ 318، من طريق أحمد بن هارون المصيصي، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وزيد بن خالد، به، وهذا إسناد معلول لسببين:

الأول: فيه أحمد بن هارون، قال ابن عدي عنه: ((يروي مناكير عن قوم ثقات لا يتابع عليه أحد))، وقال: ((وهذا الحديث يرويه محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد. ومن حديث ابن جريج، عن الزهري غير محفوظ))، وقال أيضاً بعد أن سرد حديثاً آخر له: ((ولم أجد لأحمد هذا أشنع من هذين الحديثين)) الكامل 1/ 318 - 319.

والثاني: تدليس ابن جريج.

ومن هذا يتضح أن الشيخ شعيباً –حفظه الله ومتعنا بعلمه- قد تابع ظاهر سند الحديث، وهذا ما درج عليه المعاصرون من الناقدين دون الدخول إلى تفريعات وطرق الأحاديث المتشعبة وهذا ما يؤدي بهم –وكما هو الحال في هذا المثال- إلى الوقوع في وهم في الحكم على الأحاديث. وهذا ما تنبه له أئمة الحديث الأفاضل من المتقدمين إذ إنهم لا يحكمون على الحديث لأول وهلة، لكن بعد متابعة طرقها ومعرفة حال رواتها ومتى تكون رواياتهم دقيقة؟ ومتى تكون مخالفة للصواب؟ والفضل في هذا يعود إلى الكم الهائل والخزين الوافر من حفظ الأسانيد والمتون الذي كانوا يتمتعون به فهم عاصروا الرواية وكانت السنة محفوظة لديهم بصدورهم وسطورهم وعاينوا أحوال الرواة ومراتبهم، وما تحيط الأحاديث من أمور وعلل، وأحوال فرحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين ألف

خير. وإن من واجب المتأخرين الآن أن يجدّوا ويجتهدوا في شرح إعلالات جهابذة المتقدمين ويحاولوا الوصول إلى شرح مرادهم وحلِّ عباراتهم ومعرفة سبب أحكامهم.

وإن من أسباب التباين بين منهج المتقدمين والمتأخرين، أن المتأخرين في نقدهم الحديث لا يحيطون بجميع أحوال الراوي؛ إذ إن الرواة ثقاتاً كانوا أو غير ذَلِكَ لهم حالات مخصوصة في

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015