ولا يعني ذلك أنه في الفضائل قبل ما لا يستحق القبول، ولا يمكن أن يكون هذا مراده، لكن يقصد أننا نقبل بشروط تختلف عن شروط قبول ما يكون أولى بالتحري والتثبت، وهذا أيضا له علاقة بقضية قبول مفاريد الراوي، فالمحدثون الأصل عندهم قبول الحديث الغريب الذي تفرد بروايته راو واحد لكنه ليس دائما فإنهم يقارنون بين مضمون الخبر وأهميته وبين ضبط الراوي وإتقانه، ولذلك أحد قسمي الشاذ عند ابن الصلاح وهو القسم الوحيد عند الحاكم هو التفرد بأصل وأن لا يقع في ضبط الراوي وإتقانه ما يجبر ما تفرد به.

يعني يقارن بين رواية الراوي وأهميتها وبين ضبط الراوي، فإن كان يقع في ضبط الراوي ما يجبر مقدار التفرد قبلت الرواية، وإن كان لا يقع في ضبط الراوي ما يجبر مقدار التفرد رددت الرواية، فهذا راو واحد قد أقبل منه التفرد في موطن وأرده في موطن آخر،فالجاهل يظن أن هذا تحكم وتلاعب؛ كلا بل القضية متعلقة بمضمون الخبر وما يستلزمه من التثبت والتحري وفي مقدار ضبط الراوي فإن كان مقدار ضبطه أعلى قبلت الرواية وإن كان أقل ردت الرواية

الأصل الثاني: اختلاف المقصد من نقل الخبر، فإن كان المقصود من نقل الخبر إثبات نسبته إلى قائله فهذا يختلف عما إذا كان المقصود من نقل الخبر هو بيان منهج كلي مثلا

مثلا: أنت قد تسمع خبر فتقبله، فإذا عرفت أن هذا الخبر إذا قبلته سيترتب عليه منفعة لك أو مضرة عليك فإنك تزداد بحثا وتحريا عن الخبر، في البداية قد تكون قبلته ثم يظهر لك ان هذا الخبر سيجلب لك منفعة أو سيجر عليك مضرة فتعيد عملية الحكم عليه بالقبول وتتثبت منه أكثر، فقصدك في المرة الأولى مجرد أنه خبر وتريد أن تنقله، ما كنت تتوقع أن يجلب لك منفعة أو مضرة ولذلك قبلته، اما في المرة الثانية فأصبح مقصودك مختلف في تلقي الخبر، ولذا تعود وتفكر في قبول الخبر

وهذا أيضا متحقق في أخبار العلماء، ولشيخ الإسلام ابن تيمية عبارة في ذلك فقد تكلم عن الأحاديث والآثار الضعيفة التي يوردها العلماء في كتب العقائد وما وجِّه من نقد إلى هذا الأمر فأجاب شيخ الإسلام بجواب جميل يبين لك اختلاف المقصود من نقل الخبر وبالتالي الاختلاف في قبوله فقال " والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يُعلم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين لأن ذلك يقوي بعضه بعضا كما تُذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف، فثَمَّ أمور تُذكر للاعتماد، وأمور تذكر للاعتضاد، وأمور تُذكر لأنها لم يُعلَم أنها من نوع الفساد " يعني قد أعرف أنه مكذوب على قائله لكن أعرف أن المعنى ليس بفاسد، فأورده على هذا المعنى، أنا ما أحتج به على أنه قول لفلان، لكن أحتج به على أن هذا المعنى قاله أحد العقلاء ولو كان كذابا، فليس المقصود الاحتجاج به، لكن المقصود أن هذا المعنى لم ينكره الناس، وأن العالم عندما نقلها كان يرى صحة معنى هذه العبارة

أيضا موقف أكثرطرافة وهو مهم جدا بالنسبة للتفسير ذكره شيخ الإسلام في الرد على البكري أنه ذكر حديثا مرفوعا عن النبي وهو حديث أن أبا بكر قال قوموا بنا نستغيث برسول الله فقال النبي إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله " انتقد البكري على شيخ الإسلام هذا الحديث لأنه من رواية ابن لهيعة، وابن لهيعة قد تكلم فيه فكيف تحتج بالضعيف وما إلى ذلك

فرد عليه شيخ الإسلام بأجوبة

أولها: أنه ما أورده في مقام الاحتجاج بل في مقام الاستشهاد ضمن آثار وأحاديث أخرى كثيرة تدل على صحة مضمون أنه لا يجوز أن يستغاث إلا باله عزوجل

والجواب الثاني: وهو الأكثر طرافة يقول: يكفيني في إيراده أنه إن لم يكن ثابتا عن النبي فهي مقولة كان يرى ابن لهيعة أنها صحيحة، يعنى أنه يرى أن هذا المعنى الذي تضمنه هذا الحديث صحيح، وابن لهيعة كان أحد كبار أئمة الحديث والفقه، فهو من الأئمة الكبار، وأن العلماء الذين تلقوا هذا الخبر ونقلوه في كتبهم دون استنكار منهم كانوا يعتبرون هذا المعنى صحيحا وأنه لا يجوز أن يستغاث إلا بالله، وهذا سينفعنا في التفسير كما تعرفون، لأنه في بعض الأحيان نقول: حتى لو لم يصح الحديث عن أبي هريرة أو عن ابن عباس أو عن زيد بن ثابت أو عن فلان أو فلان من الصحابة، فأقل شيء أنه ثابت عن التابعي، فالتابعي

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015