مثال آخر: لو خرجت من منزلك ووجدت جارك على باب البيت يقول لك: توفي المَلِك وتولى ولي العهد الملك؟ هل تصدق هذا بكل سهولة وتحدث به الناس، ونفس جارك لو قابلك وقال لك: إمام مسجدنا توفي، فلا يقع في خاطرك قلبك شك في صدقه خصوصا إذا كنت تعرفه بالعدالة والصدق، فهذا خبر واحد في وفاة رجلين فقبلت قول من حدثك في أحد الخبرين دون الآخر، وهكذا قس أخبارا كثيرة تقع في حياتنا لكني أطبق على كل خبر في قبوله شروط تختلف عن شروط قبول الخبر الثاني، إذن هذا أمر واضح وهو أن الأخبار وهي أخبار لها شروط متباينة في قبولها
وليس هذا أمرا منتقدا، يعني لو جاء شخص يسأل عن طريق وما يقبل من مجيبه إلا إذا عرف عدالته وصدقه وإتقانه وضبطه فهذا لا يمكن أن يعيش أصلا لأنه في قضايا كثيرة نضطر لقبولها بمنهجها الصحيح وإلا ستكون مفاسد تحريك وتثبتك أعظم وأكثر من مفاسد عدم التحري والتثبت إن صح التعبير
فلماذا اختلف منهجنا في قبول الأخبار؟
اختلاف مناهج نقد الأخبار يرجع إلى أربعة أصول أساسية:
الأصل الأول: عظم أثر الخبر على مُتلَقِّيه أو ضعف أثره عليه مما يُكسِبُه قدره من الأهمية عند المتلقي بقدر أثره، فالخبر كلما كان أثره كبيرا عليك وله أهمية كبيرة كلما استوجب من التحري ما لا يستوجبه ما هو أقل منه، وهذا أمر واضح وندركه في انفسنا، وهذا منطبق تماما على المنقولات، فالحديث الذي أريد أن أثبت نسبته إلى النبي هذا في غاية الأهمية، ولذلك يحتاج من شروط التثبت والتحري أكثر من خبر أرويه عن أحد العلماء أو شئ من ذلك أو رأي فقهي له، ففي الأخير يبقى هذا قول فقهي له قدره لكن ليس وحيا من الله عز وجل كالخبر الذي أنسبه إلى النبي r ، وبالتالي يستوجب الخبر الأول من التحري والتثبت ما لا يستوجب الخبر الثاني.
أرجع وأذكر أن من الأشياء التي أدت للخلل في هذا الباب أن المنقولات في التراث الإسلامي اصطبغت بصبغة واحدة وهي الإسناد، فيظن كثير من الناس أن مجرد ذكر الإسناد يلزم منه أن يكون منهج القبول منهجا موحدا لأنها فيها إسناد، وهذا غير صحيح؛ لأن الغرض من ذكر الإسناد لم يكن دائما من أجل أن يكون هو مجال النقد للأخبار، وإنما كان أهم سبب لذكر في تراثنا الإسلامي هو أنه كان وسيلة العزو والأمانة العلمية، يعني مثل ما نعزو نحن الآن للكتب، فكان الواحد منهم إذا أراد أن يعزو كانت وسيلة العزو هي الإسناد، فليس المقصود من ذكر الإسناد هو أن يكون دائما هو وسيلة نقد المنقول، وإنما هو وسيلة العزو والإحالة وبيان المصدر، وإلا بالله عليكم لما يأتي أحد أئمة اللغة ويسند طرفة من الطرف أو نادرة؟
ما المقصود؟ هل المقصود أنك ما تضحك إلا بعد أن تتأكد من سند الطرفة؟ كلا، فهو يوردها لتضحك، فلم يكن ذكره للإسناد لتدرسه وتعرف صحته من ضعفه ولا لشئ من ذلك.
وكذلك أشعار الجاهليين لم يكن إيراد الإسناد فيها إلى أئمة اللغة لتعرف صحتها من ضعفها، وإنما كان فقط لبيان أن الذي أثبت هذه القصيدة أو هذه المقطوعة النثرية هو فلان من أئمة اللغة كالأصمعي وأبي حاتم السجستاني وغيرهم من أئمة اللغة لتستطيع أن تقبل أو ترد على حسب ما عرف من منهج كل إمام منهم من شدة توق وتحر، ومن مدرستة هل هي مدرسة متثبتة في النقل أو غير مثبتة وغير ذلك
نرجع إلى الأصل الأول الذي أوجب اختلاف مناهج نقد الأخبار وهو أهمية الخبر أو عدم أهميته، وهذا الأصل قرره الأئمة، ومن ذلك عبارة ابن مهدي الشهيرة والتي تُفهَم خطأ، والتي قال فيها " إذا روينا عن النبي في الأحكام والحلال والحرام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب والمباحات تساهلنا في الأسانيد " لماذا هذا التفريق؟ لأنه واضح أن الأولى أهم من الثانية فاختلف منهج النقد.
¥