الأمر الثاني: قاعدة أخرى يجب أن نؤصل لها وهي: أن العلوم متباينة في شرو ط قبولها، وهذا يكون واضحا في العلوم التي تختلف اجناسها تماما، يعني مثلا: كلنا يدرك ان مختبرات الطبيب نافعة عنده لكن ليست نافعة في ورشة المهندس، فالطبيب إذا أراد ان يتبت من شيئ يخص مادته فعنده مختبراته وآلاته الكفيلة بالمطلوب لكن هذه الوسائل ليس نافعة في علم الهندسة، هذا أمر واضح لا يختلف فيه العقلاء عندما تختلف أجناس العلوم، لكن يصبح هناك شيء من الإشكال عندما يتحد جنس العلوم كالمنقولات (علم النقل الذي يضم نقل القرآن، ونقل السنة، ونقل التاريخ، ونقل اللغة، ونقل الأدب، ونقل الأشعار، والحوادث والقصص) فكل هذه منقولات، فلما يتحد الجنس يظن الناس أن وسائل النقد متفقة لأنها اتفقت في الجنس، والواقع أن هذا غير صحيح، فإن هذه العلوم وإن اتفقت من حيث الجنس لكن وسائل نقدها مختلفة، ويدل على ذلك أشياء لو لم يكن منها إلا أن المحدثين - الذين نود ان نتحاكم إليهم – كانوا يرجعون في اللغة إلى أئمة اللغة، وفي التاريخ إلى أئمة التاريخ، فلو كان منهج المحدثين في نقد السنة النبوية في نقد العلوم يصلح أن يطبق في كل العلوم لأصبح المحدثون هم أعلم الناس باللغة وأعلم الناس بالتاريخ وأعلم الناس بكل المنقولات، والواقع أن هذا غير صحيح.

ومما يدل على ذلك أيضا أن المحدثين الذين جمعوا بين فنون عديدة، من كان إذا ألف كتابا في الحديث طبق عليه قواعد نقد الحديث، وإذا ألف كتابا في اللغة طبق عليه قواعد اللغة، مثلا كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، هذا الكتاب جميل لأنه جمع بين علمين، بين علم نقل السنة وبين شرح غريب السنة، فإذا أراد أن ينقل الحديث أسنده، وإذا أراد ان يروي اللغة لم يسندها، يعني قد يروي القصيدة يسندها إلى الأصمعي الذي يرويها عن امرئ القيس الذي بينه وبين الأصمعي أكثر من مائتين سنة، ويثبتها ويفسر بها الحديث النبوي ولا إشكال عنده في شيء.

أبو عبيد نفسه في كتاب الأموال او كتاب الطهور نقد الأحاديث النقد الحديثي الذي يستخدمه المحدثون في نقد السنة النبوية، فنفس العالم يختلف منهج نقده بحسب اختلاف العلوم، فإذا جئنا إلى الإمام الطبري يتضح هذا فيه غاية الوضوح، فكتابه تهذيب الآثار مثلا ينقد فيه الأحاديث النبوية النقد الحديثي الدقيق المتين المعروف، يأتي ويذكر الحديث ويقول: هذا الحديث ينبغي ان يكون معللا بكذا علة ثم يذكر ستة علل أو سبعة، فإذا جاء للتاريخ لا يفعل ذلك، فإذا جاء للتفسير لا يفعل ذلك إلا في مواضع معينة، ويذكر الروايات ويبني عليها فهم كتاب الله دون أن يطبق القواعد التي نعرفها في منهج نقد السنة النبوية

الأمر الثالث: لماذا يختلف منهج نقد المنقولات والأخبار مع أنها جميعا أخبار

وحتى تتضح الفكرة نرجع إلى أنفسنا وإلى ما نقبله عموما من أخبار في حياتنا، لأن طريقة عمل العقول فطرية، والله ركب فينا العقول لنميز بها بين الحق والباطل، ونميز بها المتنبيء الصادق من المتنبئ الكاذب، فالدين مبني على ما خلقه الله فينا من قدرة عقلية على الفهم والاستدلال، فالواحد منا يلاحظ أننا في حياتنا نفرق في منهج قبولنا للأخبار، وسأضرب أمثلة حتى تتضح الفكرة لأن الفكرة فيها نوع من العمق حقيقة ولها مدخل في قضايا فلسفية وقضايا كلامية، لكني أقول مثلا: أنت الآن إذا كنت في مفترق طرق وتريد أن تسأل عن مكان وموضع، ماذا تفعل؟ ترى شخصا في الشارع لا تعرفه لا بعدالة ولا بضبط ولا بشيء ولعله أكذب الناس، لكن قد تقوم عندك من خلال كلامه فقط قرائن تؤكد انه صادق فتتبع وصفه حتى تصل للمكان الذي تريده.

هل إذا أردت مثلا أن تقيم شركة تجارية أو شخص يريد مصاهرتك بالزواج من ابنتك أو أختك تقبل أن تسأل نفس الشخص السابق؟ لا أبدا، فكيف قبلت خبره في المرة الأولى من نفس الشخص ولم تقبل في المرة الثانية مع أنه نفس الرجل ونفس الأسباب ونفس القرائن؟ هذا مما يبين أن هناك فروق فطرية أنت تدركها في قبول الأخبار وردها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015