رحمه الله تعالى وهو حقيقة في تفسير وتأويل الفاتحة ما وجدت أحداً حققّ معانيها بهذا المقصد مثله, يقول بن القيم رحمه الله في قوله: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (نجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب فعلاً ووصفاً واسماً وتنزيهه سبحانه عن كل سوء وعيب فعلاً ووصفاً واسماً وبذلك كمل التوحيد)
قال الله تعالى: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل: أحمد ربي أو حمداً لله لماذا؟
ما لفرق بين قولنا: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وبين قولنا: حمدًا لله رب العالمين؟
الفرق ظاهر فإنّ قولك: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) تُفيد الاستغراق فإنّ الألف واللام في قولك: (الْحَمْدُ للّهِ) للاستغراق, ولله المثل الأعلى حين تقول: الرجل أو تقول رجل, أيّهما أكمل في المعنى؟ الرجل, لأنّك حين تقول الرجل يعني قد كمُلت معاني الرجولة فيه, فقلت هذا الرجل قد كمُلت فيه معاني الرجولة, أمّا حين تقول: هذا رجل, يعني فيه بعض صفات الرجولة, ولله المثل الأعلى في ذاته وأسمائه وصفاته, فإنّ قولك: (الْحَمْدُ) يعني جميع معاني الحمد لله رب العالمين, وأيضاً فإنّ قولنا: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) افتتاح الحمد الفاتحة بها يُفيد أنّ الله تعالى محمود قبل أن يحمده الحامدون, فهؤلاء سواءً حمَدوا أم لم يحمدوا فهو محمود سبحانه منذ الأزل إلى الأبد سبحانه وتعالى, ما أعظم ذلك أيّها الأحبّة! وما أعظم استحضاره!
قولك: (رَبِّ الْعَالَمِين) تخصيص هذا الوصف (الرب) وافتتاح الصفات به قبل الرحمن قبل الملك, لماذا؟
لأنّ الربّ أعظم المقامات أثراً وتعلقاً بمصلحة العباد والإحسان إليهم هو معنى الرب, لأنّه يدخل فيه معنى السيد المربّي سبحانه وتعالى, ويدخل فيه معاني النفع والضر والإحسان وغير ذلك, فخصّه سبحانه وقدّمه ليكون أول ما يُشنّف آذانهم فيدعوهم إلى سرعة اللجوء واالاستجابة إليه سبحانه وتعالى, وليكون أقوى في تحريك قلوبهم وعطفهم على ربهم سبحانه وتعالى, فإنّه سبحانه وتعالى في تقديمه أيضاً دليلٌ على أنّ رحمة الله سبحانه وتعالى سبقت غضبه, فلم يُقدّم ملك على الرب! لو قدّم لو قال: (الْحَمْدُ للّه مالك يوم الدينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لكان غضبه قد سبقت رحمته, فأمّا وقد قدّم هنا في الفاتحة التي هي فاتحة كتابه, قدّم الربّ على ملك فيدلّ ذلك على أنّ رحمته سبقت غضبه وله الفضل والمنّة سبحانه.
قول الله عزّوجل: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قبل ذلك نرجع في في قولك: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لماذا قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل: (رب الناس)؟ لماذا قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل ربّ الدنيا والآخرة؟
ليُفيد كمال الله عز وجل فإنّه ربٌ للعالمين جميعاً إنساً وجنّاً وحيوانات, والعالمون كُثر لا يُعدّون, ففي البحر عوالم لا يحصيها إلا الله, وفي الأرض عوالم لا يحصيها لا الله, وفي السماء عوالم لا يحصيهم إلا الله عزّوجل, فهذا يُفيد كمال ربوبيته سبحانه وتعالى, ولو قال: (الناس) لما كان ذلك كمالاً في ذلك معنى الآية, وكما قلت لكم السورة كلها في معاني الكمال لله تعالى, قول الله عزوجل: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذه الآية في بيان كمال الثناء على الله عزّوجل وصفاً وفعلاً, ولذلك قال الله تعالى فإذا قال: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ماذا يقول الله؟ قال: (أثنى علي ّ عبدي) فإنّك بقولك: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تُثني على الله سبحانه وتعالى, وجمع بين الاسمين أيّها الإخوة (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأمور:
أولاً: أنّ الرحمن دالّة على الصفة القائمة بالله عزّوجل وهي الرحمة, والرحيم صفة دالّة على تعلّقها بالمخلوق وهي أثر الرحمة على المخلوق فتأمّل ذلك.
هذه من دقائق ابن القيم رحمه الله تعالى: (الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة بالله, والرحيم دالٌ على تعلّق هذه الرحمة وأثرها على العباد) فانظر يا رع اك الله انظر كيف تَحقَق في قولك: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وصف الله بهذه الصفة بأعلى وصف ووصف الله عزّوجل بأثرها على العباد, وذلك أقرب إلى قلوبهم وتعلُقهم بربّهم سبحانه وتعالى, أيضاً أيّها الأحبّة هنا سر في هذه الفاتحة يُحقق قول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي السبع المثاني, ما معنى هي السبع المثاني؟
¥