من حقّق هذه السورة تحقيقاً صحيحاً حقّق الإخلاص لله عزّوجل, لأنّك إذا قلت: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (4) فإنك توحّد الله عزّوجل في كل شيء من شؤون الحياة, ولذلك قال: (أحد) ولم يقل: (واحد)! وحين تقول: (اللَّهُ الصَّمَدُ) وهو الذي بلغ كمال السؤْدد سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته, وهو الذي إليه الملجأ لجميع الخلائق في جميع شؤونهم وحوائجهم, فإنّك بذلك قد حققّت الإخلاص حقًّا, ثم إذا قلت: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) تبيّن لك أنّ الله عزّوجل مستغن ٍعن كل أحد فليس له ولد وليس له والد وليس له مثيل, فحققّت بذلك في قلبك كمال الله عزوجل معرفةً واعتقادا.
نرجع إلى مقصد سورة الفاتحة, أرجو أن تُرعوا لي سمعكم في هذا وقلوبكم.
هذه السورة العظيمة أيّها الأحبّة التي عظمّها الله وفرضها الله علينا في كل صلاة, بل في كل ركعة نقرؤها, لابدّ أن نُحقِق فيها معنىً عظيماً, ولابدّ أن تكون هذه السورة تعني وترجع إلى معنىً لابدّ أن نُحقِقه في قلوبنا ألا وهو تحقيق كمال العبودية لله عزّوجل, هذا مقصدها باختصار "تحقيق كمال العبودية لله عزوجل" بمعنى أنّك في كل صلاة تقرأ هذه السورة وفي كل ركعة تُجدِد العبودية لربّك بل تزداد عبوديتك لربّك بحسب معرفتك لما تضمّنته هذه السورة, ألست معي حينما قال ابن القيم رحمه الله: (أنها اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن)
أنت أيّها المسلم حينما تقرأ هذه السورة وتُحقِقها في قلبك اعتقاداً ومعنىً واستحضاراً فإنّك تُجدد العبودية لله, ولعلّنا في التأمّل السريع نقف بعض الوقفات تبيّن هذا الغرض وتؤكدّه:
أولاً: كلنا يعلم الحديث الذي في الصحيح الذي أخرجه البخاري في قول الله في الحديث القدسي: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين, فنصفها لي ونصفها لعبدي) هذه الصلاة يعني الفاتحة, وإنمّا سُمّيت صلاة لأنّها ركنٌ في الصلاة, فقسمها الله نصفين, نصف لله ونصف للعبد, فالثلاثة الآيات الأولى فيها بيان استحقاق الله عزّوجل للكمال المطلق, والثلاثة آيات الأخيرة والآية الوسطى وهي ركيزتها وعمدتها هي بين الله وبين عبده, كما قال الله تعالى: (هذا بيني وبين عبدي) والثلاثة الآيات الأخيرة هي في حقّ العبد في سؤاله ربه عزّوجل أن يهديه الصراط المستقيم للنجاة في الدنيا والآخرة, يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (من تحقق بمعاني الفاتحة علماً ومعرفةً وعملاً وحالاً فقد فاز من كماله بأوفر نصيب, وصارت عبوديته عبودية الخاصّة الذين ارتفعت درجتهم عن عوامّ المتعبدين) (5) الله أكبر!
إذا كنّا نعلم أنّ هذه الفاتحة ستُحقق لنا عبوديةً خاصةً, ونُحقِق بها كمالاً بشرياً, فو الله حقّ علينا أن نُولي هذه السورة عنايةً كبرى في حياتنا وأن نستحضرها معنى ًوعملا.
افتتح الله عزّوجل بقوله: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (6) قوله: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه الآية غرضها إثبات الكمال المطلق لله عزّوجل, وأن الحمد هو الوصف الجامع للكمال, الحمد هو وصف المعبود سبحانه بصفات الكمال, فحين تقول: (الْحَمْدُ للّهِ) فإنّك تقول ربنا يستحقُ الوصف الكامل, فهو كما قال بعض المفسّرين هو الثناء على الله بالكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته, فإذا كان سبحانه وتعالى عليماً فله الكمال كُلّه في العلم وله العلم كله هذا كمال, فأنت تستحضر في قولك: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنّ الله تعالى له الوصف الكامل المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته, لو استحضرت هذا المعنى والله لحققّت في قلبك معرفة بالله حقيقة كبيرة وعبدت الله حق ّ العبودية عبودية صحيحة, ولذلك قال الله تعالى إذا قال العبد: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: حمدني عبدي, والحمد هو الثناء بالكمال, وافتتح الله تعالى الفاتحة بالحمد, وافتتح الله كتابه بالحمد, لأنّ أجمع كلمة في وصف الكمال لله عزّوجل هي هذه الكلمة قولك: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فناسب أن يفتتح الله كتابه الذي هو رسالته للخلق بها, ليكون أول ما يتلقّاه العباد من كلام ربّهم, أول ما يتلقّاه العباد حينما يقرؤون كتاب ربهم تكون تتلقّاهم كلمة: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيستقرّ ذلك في نفوسهم وفي أحوالهم, يقول ابن القيم
¥