يقول لو شئت لكتبت ُصحفاً ما يحملها إلاً سبعين بعيراً من تفسير وبيان سورة الفاتحة, ولكنّنا نُريد أن نقف في هذا المجلس ونخصّ هذا المجلس به بسورة الفاتحة خاصّة, ذلك لعظمها وأنّ المسلم يقرؤُها وجوباً وفرضاً في كل يوم سبعة عشر مرة, وما ذلك إلاّ لعظمها, بل إنّه يقرؤُها في الفريضة والنفل أكثر من ثلاثين مرة ما لسرّ في هذا؟! وما لسرّ في إعادتها؟! ثلاثون مرة يقرؤها الإنسان في كل يوم ولا يشعر ولا يملّ!
إنّما ذلك لأمرٍ عظيم وغرضٍ تحمله وتتضمنه هذه السورة, لكنّنا قبل أن نذكر مقصدها والمحور الأساسي الذي تدور عليه, علّنا أن نُلمّح إلماحةً إلى بعضِ فضائلها, فقد جاء في مسند الإمام أحمد, عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بِيَدِه مَا أُنْزِلَ في التَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنْجِيلِ وَلاَ في الزَّبُورِ وَلاَ في الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذي أُوتيته) أي أنّها اشتملت على القرآن كله, وهذا دليلٌ كافٍ في فضلها.
وأخرج البخاري عن أبي سعيد المعلّى, وهو حديث عظيم, قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْه - لأنّه كان في الصلاة- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي, قَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لما يحييكم) ثُمَّ قَالَ لِي -اسمع ما يقول- لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِي أَعْظَمُ سُّوَرِة فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) فلم يُخبره النبي صلى الله عليه وسلم حتى أراد أن يخرج فأخذ بيده, النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينظر مدى اهتمام سعيد بن معلّى اهتمامه وحرصه على هذه الفائدة العظيمة وهذه الهدية الكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, هل هو مهتم أم لا؟! فلمّا أراد أن يخرج وقف سعيد بن المعلّى رضي الله تعالى عن أبي سعيد, فقال يا رسول الله إنك قلت: (لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هي أَعْظَمُ سُورَةٍ في الْقُرْآنِ) قَالَ: نعم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِي السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) والحديث في البخاري.
وإنّما كانت أعظم سورة في القرآن لماذا؟!
لماذا كانت أعظم سورة في القرآن؟
لأنّها تضمّنت جميع معاني القرآن ومقاصده, ولهذا سُميّت بأم القرآن, وأم الكتاب, والأساس, والوافية, والكافية, كل ذلك دليلٌ على أنّها تضمّنت أصول القرآن كله, وقد تظافرت أقوال المفسرين في هذا ممّا يطول في ذكره, اسمع إلى ما ذكر ابن القيم في كلامٍ نفيس قال: (اعلم أنّ هذه السورة اشتملت على أُمّهات المطالب العالية أتمّ اشتمال, وتضمّنتها أكمل تضمن, فاشتملت على التعريف بالمعبود سبحانه وتعالى بثلاثة أسماء, وهي مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى) (3)
فانظر يا رعاك الله إلى ذلك بعين بصرك وبصيرتك.
هنا سؤال مهمّ هو محطّ رحلنا في هذه الجلسة , أرجو سلمّكم الله أن تُرعوا لي سمعكم, ومن وعاه جيداً فسيقرأ الفاتحة قراءةً أُخرى, وسيجد في هذه الفاتحة معنىً لا يجده وطعماً لا يجده في غير تأمُلِه بغير هذا المعنى
ما هو مقصد السورة؟ مقصد سورة الفاتحة؟
وقبل أن أبيّن هذه المقصد أُريد أن أُلمِح إلى أهمية علم من علوم القرآن ينبغي لطالب العلم الذي يُريد أن يفهم كلام الله عزوجل فهماً صحيحاً فعليه بهذا الأساس, وهذا العلم وهو: (مقاصد السور) لكل سورة أيّها الأحبّة بالتأمّل الثاقب محورٌ أساس تدور عليه, هذا المحور يجمع مقاصد وموضوعات, والوصول لهذا المحور يحتاج إلى بحثٍ ويحتاج إلى تأمّلٍ طويل ودقّةِ فهم, ذلك أنّه علمٌ يتعلق بدقائق السور, فهذا المحور إذا وفقك الله وفتح لك بابه فإنّك ستجد في هذا المحور ما يجمع لك معاني السورة كُلّها.
تأمّلوا سورة الإخلاص, ما هو محورها؟
محورها هو اسمها (الإخلاص) هل تجدون هذا الاسم موجود في ألفاظها؟
هل الإخلاص موجود في ألفاظ سورة الإخلاص؟
لا، إذن لماذا سميّت بالإخلاص؟
لأنّها تُحقق الإخلاص فكلّ كلمة وليست كل آية, كل كلمة من هذه السورة لها دلالة في الإخلاص!
¥