هـ) في معنى ذلك:" أحسبه يعني هذه القراءة التي جُمعت في المصحف ([17]) ".
وقد عمل القراء بهذا الميزان إقراء وتأليفا في الحكم على القراءات، كما جاءت الإشارة إليه في أوائل مصنفاتهم، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) - وهو أول إمام معتبر جمع القراءات ـ ([18]) بعد أن ناقش أحد أوجه القراءات علل حكمه بأنه اجتمعت له الشروط الثلاثة المذكورة، حيث قال: " اجتمعت له المعاني الثلاثة من أن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج عن قراءة القراء" ([19]).
وعلى هذا الأساس اعتمد مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) ما يقبل من القراءات وما لا يقبل ([20]).
وقد ظل هذا المعيار هو الحكم الذي يُحتكم إليه عند اختلاف أوجه القراءات، ولا سيما بعد أن كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وكثر أهل البدع الذين قرؤوا بما لا تحل تلاوته ([21]).
وكلما تقادم الزمن كثر القراء وانتشروا، وخلفهم أجيال بعد أجيال في طبقات متتابعة، فمنهم المجوّد للتلاوة المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك الاختلاف، وكاد يختلط المتواتر بالشاذّ، فانبرى جهابذة العلماء فميزوا ذلك وحرروه وضبطوه في مؤلفاتهم ([22]).
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ):"وإذا كان صحة السند من أركان القراءة كما تقدم تعين أن يعرف حال رجال القراءات كما يعرف أحوال رجال الحديث، لا جرم اعتنى الناس بذلك قديما، وحرص الأئمة على ضبطه عظيما، وأفضل من علمناه تعاطى ذلك وحققه، وقيد شوارده ومطلقه، إماما الغرب والشرق الحافظ الكبير الثقة ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ـ مؤلف التيسير وجامع البيان وتاريخ القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه تحقيق هذا العلم وضبطه وإتقانه ببلاد الأندلس والقطر الغربي، والحافظ الكبير ـ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار الهمداني ـ مؤلف الغاية في القراءات العشر وطبقات القراء وغير ذلك ومن انتهى إليه معرفة أحوال النقلة وتراجمهم ببلاد العراق والقطر الشرقي.
ومن أراد الإحاطة بذلك فعليه بكتابنا غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أويى الرواية والدراية" ([23]).
ثم إن الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) جمع ما انتهى إليه من سبقه في مصنفاته المنيفة، ويأتي في مقدمتها الكتاب المذكور غاية النهاية وكتابه النشر في القراءات العشر ومنظومته طيبة النشر، ومن ثم عكف الشيوخ عليها تأليفا وإقراء، فاشتهر علم التحريرات الذي يعنى بعزو أوجه القراءات إلى طرقها ومصنفاتها، في دقة متناهية مع بيان الجائز منها والممنوع حال الإقراء، وآخر ما انتهى إليه هذا العلم تحقيقا وتأليفا وإقراء هو الإمام محمد بن أحمد المتولي (ت 13 13هـ) الملقب بابن الجزري الصغير، إذ عليه مدار الإقراء وبه تلتقي جل أسانيد القراء، فهو بجدارة إمام مدرسة القراءات في العصر الحديث ([24]).
ولئن استمر العمل في تحرير القراءات والحكم عليها بعد ابن الجزري فإنه لن ينقطع بالمتولي، وهو مجال رحب للقراء والباحثين.
أهمية الحكم على القراءات
القراءات ميراث خالد اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، وعلم القراءات علم جليل، له من الرواية ذروة سنامها، ومن الدراية صافي دررها، وإحكام مبانيها والتبحر في مقاصدها والغوص في معانيها بحر لا ساحل له وغور لا قاع له.
وعلم القراءات ليس له حد ينتهي إليه، فمجالاته عديدة وفروعه متشعبة، وطرق أسانيده لا تكاد تستقصى، ومعاني وجوه القراءات لا تكاد تنقضي، فكلما أنعم الباحث النظر في تصاريفها تجددت معانيها في حلل أبهى.
وتجيء مكانة الحكم على القراءات في أولويات القيم العلمية لهذا النوع من العلوم الشرعية.
قال الحافظ ابن الجزري (ت 833 هـ) في سياق تعداد فوائد علم القراءات:" ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عن لفظةٍٍ لفظةٍ، والكشف عن صِيغةٍ صِيغةٍ، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يُوصل إليه إلا
¥