المبحث الثاني: أهمية الحكم على القراءات.

تاريخ الحكم على القراءات:

يرجع تاريخ الحكم على القراءات إلى بداية الإذن بالقراءة على سبعة أحرف، فكان الحُكم ـ عند اختلاف الصحابة في القراءات ـ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي حادثة عمر (ت 23 هـ) رضي الله عنه مع هشام بن حكيم (ت بعد 15 هـ) رضي الله عنه لما استقرأهما الرسول صلى الله عليه وسلم صوّب قراءة كل واحد منهما) ([2]، كما وجّه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى أن يقرؤوا كما عُلّموا ([3]).

فلا يقبل من القراءات إلا ما كان منقولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا النهج جمَع أبو بكر الصديق (ت 13 هـ) رضي الله عنه القرآن الكريم، إذ كان من شروطه أن لا يثبتوا بين اللوحين إلا ما ثبت سماعه من الرسول صلى الله عليه وسلم وتُلقي عنه ([4])،ومما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) رضي الله عنه: " من كان تلقى من رسول الله شيئا من القرآن فليأتنا به " ([5])، فالتلقي شرط معتبر في القرآن الكريم وقراءاته.

وقد لزم جميع الصحابة رضوان الله عنهم هذا النهج القويم، حيث كانوا يقرؤون بما تعلموا، ولا ينكر أحد على أحد قراءته، ثم أن انتشروا في البلاد يعلمون الناس القرآن والدين، " فعلّم كل واحد منهم أهل مصره على ما كان يقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفت قراءة أهل الأمصار على نحو ما اختلفت قراءة الصحابة الذين علموهم " ([6]).

وبعد سنة واحدة من خلافة عثمان بن عفان (ت 35 هـ) رضي الله عنه، أي في حدود سنة خمس وعشرين ([7]) شهد حذيفة بن اليمَان (ت 35 هـ) رضي الله عنه فتح أَرْمينية وأَذربيجان فوجد الناس مختلفين في القرآن، " ويقول أحدهم للآخر: قراءتي أصح من قراءتك، فأفزعه ذلك ([8]) " فركب حذيفة إلى أمير المؤمنين رضي الله عنهما، فقال: " يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى" ([9]).

فقام عثمان بن عفان الخليفة الراشد بكتابة المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه العمل في العرضة الأخيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة الصحابة رضي الله عنهم واتفاق منهم، فأخذ المسلمون بها وتركوا ما خالفها ([10]).

ومن هنا ظهر العمل بالمقياس القرّائي الذي يعتبر شرطا أساسا في الحكم على القراءة، وهو موافقة الرسم العثماني، وكل قراءة خالفت هذا الرسم عند جمهور العلماء لا تُعدّ متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة ([11]).

فلا تصح القراءة بما خالف الرسم العثماني من أوجه القراءة وإن صح نقلها، وهذا هو أحد الأركان الثلاثة لصحة القراءة، والركنان الآخران هما: ثبوت القراءة بالنقل الصحيح، وموافقتها للغة العربية.

أما شرط النقل فقد تقدم آنفا، وأما شرط العربية فمنشؤه من إنزال القرآن على لسان العربية، قال الله تعالى:) وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين (([12]).

ومقياس العربية أشبه بالوصف، لأن القراءة إذا صحت نقلا لزم أن تصح عربية.

وبعد: فيمكننا القول: إن شروط قبول القراءات التي اعتمدها أهل السنة والجماعة ([13]) كانت أصولها منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، واكتملت بالتحديد بعد العرضة الأخيرة، حيث لا تجوز القراءة إلا بما أقرأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجه القراءات واتصل به، ووافق ما رسم عليه المصحف على مقتضى العرضة الأخيرة، ووافق لغة القرآن، فلا جرم أن تلك الأركان مستقاة مما تواتر نقله عن الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا النحو.

وما كان لهذه الشروط أن يرتكز عليها أهل السنة والجماعة لولا اعتمادها على نصوص الشريعة وأصولها، ولاسيما أن الأمر يختص بالقرآن الكريم، فما خالف هذه الشروط من أوجه القراءات فهو منسوخ أو باطل أو شاذ ([14])، ولا يمكن اعتقاد ذلك والحكم به إلا بدليل من القرآن والسنة، " إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نُسخ بالإجماع، فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في نزول الوحي من كتاب أو سنة" ([15])، وما يقال في النسخ يقال فيما شابهه من الأحكام المذكورة آنفا القاضية ببطلان ما خرج عن تلك الأصول، ولهذا قال العلماء:" القراءة سنة" ([16])، قال إسماعيل القاضي: (ت 282

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015