كما يلاحظ أنَّ بعض البدع صارت تتسمى باسم أهل السنة والجماعة على ما فيها من انحراف عن الشرع والعقل أيضًا، ولا زالت إلى اليوم تزعم لنفسها هذا، وآراءُها العقدية تملأ كتب التفسير، حتى قد يلتبس الأمر على كثيرٍ ممن ليسوا من أهل هذه العقيدة، ويقول: كيف يكون هذا الانتشار لهذه الفرقة، وكيف يتبعها ـ مع ما فيها من خلل ـ طائفة من كبار العلماء؟ وأنت تعلم أن الرجال يُعرفون بالحقِّ، ولا يُعرف الحقُّ بالرجال على كلِّ حال.

ولقد ظهرت دراسات علمية في بعض هذه الطوائف، فمنها الناقد لها، المبين عن عُوارها، ومنها المؤيد لها المنتصر لمذاهبها. وبعض الناس يتخوَّف من هذه الاختلافات، ويغض الطرف عنها، ويرى أن في دحضها وبيان زيفها تفريقًا أو غير ذلك. وذلك ـ في نظري ـ غير سديد، فالذي ينتهج البحث العلمي يُبين الخطأ من الصواب من وجهة نظره، ولئن استسلم هو لهذا الهاجس، فلن يستسلم له مخالفوه، وأرى أن يؤكَّد على ضرورة البحث العلمي العادل، وأن يبين الدارس ما يراه من أخطاء دون تجريح أو إسفافٍ بالآخرين، ومن كان عنده في ذلك اعتراض فليعترض بأسلوب علمي، فإن الحق ـ لا محالة ـ منتصر.

الثالث: تحقيق المخطوطات.

هذا النوع من الدراسات قد أخذ نصيبًا وافرًا في الدراسات العليا، وقد مرَّ بمراحل في طرائق التحقيق، وصارت طريقة التحقيق تتضخم عامًا بعد عامٍ، حتى أصبح المخطوط الذي يمكن أن يطبع في مجلد لا تكفيه ثلاث مجلدات، والحال شاهد بهذا. ومشكلات المخطوط، وما يتعلق به: من جودته في ذاته، وأهليته للتحقيق من الجهة العلمية، وما إلى ذلك أمر مطروق في كتب البحث العلمي التي قد لا تُطبَّق في بعض مجالس الأقسام العلمية عند طرح مخطوط ما؛ لاعتبارات أخرى.

وقد سار التحقيق في المخطوط على مسارين:

الأول: أن يكون صاحب المخطوط ممن يوافقه الباحث من حيث المعتقد.

الثاني: أن يكون صاحب المخطوط ممن يخالفه الباحث من حيث المعتقد.

وهنا يقع الباحث في حرج النقد والتقويم، فهل يترك الموضوعات المخالفة بلا تعليق ولو وجيز يشير إلى المخالفة إشارة عابرة، أو يترك ذلك ويُعرض عنه؟

وعند حديثه عن منهج المؤلف في كتابه؛ هل يشير إلى مخالفته لأهل السنة أو يترك ذلك؟

إنَّ الأمر يحتاج إلى طرحٍ بوضوح وصراحة من غير تزيُّدٍ ولا تجريح، فيذكر عقيدة المؤلف ويبين مواطن الخلل فيها، ويحسن أن يبيَّن أثرها على مؤلَّفه، وكيف اختلَّت عنده بعض القضايا العلمية أو خالف فيها الحقَّ بسبب تلك العقيدة.

غير أن الملاحظ أنَّ كثيرًا من الباحثين المنتسبين لأهل السنة والجماعة لا يقفون في الاعتقاد إلا عند مسألة الصفات؛ بل بعض الصفات، ويغفلون عن قضايا الاعتقاد الأخرى، وهذا فيه خطرٌ في تقويم عقيد المفسر؛ إذ قد يكون وقع منه في بعض الصفات خطأ، لكنه في الموضوعات الأخرى يتبع منهج السلف. كما إنه قد يكون ماتريديًّا فينسبه إلى الأشعرية أو العكس، أو يكون إباضيًّا فينسبه إلى المعتزلة بسبب التوافق في بعض المعتقدات، أو غير ذلك من الأمور التي يحتاج فيها إلى الإلمام بالمعتقدات إلمامًا واضحًا. ولقد رأيت بعض الفضلاء يعتمدون مسألة الصفات أصلاً في الحكم على معتقدات المفسرين، وهذا ليس بكافٍ، إذ الاعتقاد اوسع من أن يكون في الصفات فقط، كما ان بعضهم قد ينقل قول المخالف له في الاعتقاد ولا ينتبه له او يهتدي إليه، وما ذاك إلا بسبب عدم إدراكه للحق والباطل في مسائل الاعتقاد على وجه العموم.

وبمناسبة طرح هذا الموضوع أحبُّ أن أُذكِّر بأمر أراه مهمًّا للغاية فيه، وهو أنَّ هذه النقاشات العقدية يحسن أن تكون علمية بحتة لا تصل إلى التجريح والتزييف وعدم الاعتداد بما عند المخالف من علم في الشريعة وفير، واجتهاد صائب، إذ قلَّ من يسلم من الدخول في معتقدٍ قد شابته شائبة الكلام، وانحرف عن هدى رسول الأنام عليه الصلاة والسلام. ولو اتُّخذ منهج شيخ الإسلام في نقاش هؤلاء الأقوام، لكان فيه خير كثير، وفيه من تأليف المسلمين وتجميع كلمتهم ما فيه، فالشِّدة، وعدم احترام ما عند العلماء من فضل ودين وعلم سبب في نفور كثير منهم عن الحقِّ واتباعه. والحقُّ مطلب كل أحدٍ، فلو سُلِك مع المخالفين سبيل الرفق واللين، والنقاش العلمي الهادف، فإنه ـ بإذن الله ـ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015