وأستطرد هنا فأقول: إنَّ سبيل البحث العلمي يختلف من موضوع إلى موضوع، كما تختلف فائدة الباحثين منه، فقد تراهم يكادون يُجمعون على بعض البحوث بما فيها من الجدَّة والتجديد، كما تراهم يختلفون في بعض منها. ولست أرى أن يُطلق على بعض البحوث إطلاقات عامَّة من عدم وجود الفائدة إلا إذا تحقق ذلك بالفحص والقراءة المتأنية. وقد سمعت بعض الأحكام على رسائل علمية مفيدة جدًّا، ولم يكن لمنتقدها سوى أنه سمع ذلك من فلان أو علان، وقد يكون النقد غير عامٍ على جميع الرسالة فعمَّمه السامع، أو يكون النقد في قضية تخصصية لا تؤثر على مجمل البحث، فلم يفهم منها السامع المرام، أو يكون غير ذلك من الأسباب. وليس يعني هذا أن لا تُنتقد الرسائل العلمية، لكن مرادي أن يكون العدل ميزانًا في النقد والتقويم، وأن يكون معتبرًا بالأمثلة الدالة على ذلك النقد.
ومن الأمور التي يحسن اعتناء الباحثين به حال النقد والتقويم إعطاء الباحث حظه من عمله، فبعض الرسائل التي لا تتميز من جانب النقد والتحليل قد يكون تميزها في جانب النقل وجمع المتفرق، وذلك أحد أسباب البحث والتأليف، وهو جمع المتفرق، فلِم يُنسى هذا الجانب للباحث، وحقُّه أن يُشكر له ذلك ويذكر.
كما أذكر هنا عيبًا يطال بعض البحوث الجادة، وهو التطويل فيما لا داعي له في البحث، أو الاستطراد فيما لا يفيد البحث. وقد رأيت كثيرًا من البحوث لا تسلم من ذلك، ويرجع ذلك لأسباب، منها:
1 ـ أن الباحث عند إعداد الخطة لا يكون عنده التصور التامُّ لطبيعة قضايا بحثه، فتراه لا يخرج عن الخطة المرسومة لأنها صارت حَكَمًا عليه لا يستطيع تغييرها إلا بشقِّ الأنفس، فيقع عنده بسبب ذلك استطرادات أو تطويل في موضوع أو تكرار لبعض الموضوعات. ولو أعطي الباحث فرصة أخرى لتغيير خطة بحثه بعد انتصافه في البحث بشرط أن لا يُخلَّ بأصلها لسَلِم من كثير من عيوب بحثه ـ فيما أظُّن ـ والله أعلم.
2 ـ أن يكون ذلك من طبيعة الباحث البحثية والعلمية، فتراه حيثما أعدَّ موضوعًا علميًّا لا ينفك عن مثل هذه الاستطرادات والتطويلات، وذلك ـ في هذه الحال ـ عيب يحسن التخلص منه.
وهناك عيب في بعض البحوث العلمية، حيث تراها في كل الرسالة تنحى المنحى الإنشائي في طرح الموضوعات، فتكثر بذلك السطور والصفحات، وتكون القضية التي يكفيها سطر أو سطران في صفحة أو عدد من الصفحات، وذلك ـ عندي ـ عيب في البحوث العلمية التي سبيلها إيصال المعلومة بوضوح، وبأدق عبارة. ولا يعني هذا أن لا تُطَّعم البحوث بالعبارات الأدبية الفائقة، والإنشاءات البلاغية الرائقة، لكني قصدي أن لا يكون الأسلوب الإنشائي الفضفاض هو السبيل في كتابة البحث العلمي، فالكتاب الأدبية الإنشائية بمعزل عن إيصال الحقائق العلمية. ولقد قرأت لبعض الكبار الذين سلكوا سبيل الأساليب الإنشائية، والتعبيرات الأدبية يُطوِّلون في عرض الفكرة، ويعيدون ويُبدون حتى تضيع الفائدة على القارئ، فتراه متحيِّرًا لا يدري ماذا يريد الكاتب، ولا يدري ما النتيجة التي وصل إليها. ومثل هذا له قُرَّاءُه ومريدُوه ـ بلا شكٍّ ـ لكنه ليس السبيل الأمثل في طرح القضايا العلمية، فمثل هذا يُشكر له هذا الأسلوب من حيث هو أسلوب، لكن أراه عيبًا في طرح المسائل العلمية. وضابط ذلك العيب أنك لا تدري بعد قراءة نصَّه ماذا يريد، وما هو الرأي الذي وصل إليه، فتحتاج إلى قراءة نصَّه مرة بعد مرة، ليس لصعوبة الفكرة التي يطرحها، لكن لغموضها ودخولها وسط تلك السطور من الرقعة الأدبية الرائعة.
الثاني: دراسة الانحرافات المتعلقة بالتفسير.
لقد نشأت البدع في جيل الصحابة، ثم بدأت تتنامى وتكثر، فظهرت بدعة السبئية التي أنتجت بدعة الرفضِ، ثمَّ ظهرت بدعة الخوارج، ثم القدرية، ثم المرجئة، ثم المعتزلة .... الخ من البدع التي ظهرت في المسلمين. ويجمع أقوام هذه البدع أنهم اعتقدوا رأيًّا، ثمَّ أرادوا حمل القرآن على آرائهم. والملاحظ أنَّ بعض هذه البدع انحسر أو تداخلت مقولاتهم في مقولات آخرين بقيت آراؤهم مذهبًا متداولاً فترة من الزمن، بل لا زال بعضها باقيًا إلى اليوم.
¥