كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة. والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة.
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة. فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير، سعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى:
كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية.
كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله.
كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام.
كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران:
الأول: المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه.
فكان لا يُقبل شئ فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام.
الثانى: أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل. فلا يكفى حفظ الرجل الواحد، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر، بل لابد من الأمرين معًا:
1 - وجودها فى مصحف أبى بكر.
2 - ثم سماعها من حافظين، أى شاهدين، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين.
قام هذا الفريق، وفق هذا المنهج المحكم، بنسخ القرآن،لأول مرة، فى مصحف واحد، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدًا، حتى عبد الله بن مسعود، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول، فى جميع الأقطار والعصور.
ونسخ من مصحف عثمان، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام، مثل الكوفة والح
جاز، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها.
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول، أن نعيد ما سبق ذكره، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين.
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها. فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع.
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد، مانع لها من التفرق مرة أخرى.
¥