7 ـ ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن، ومن الأمثلة على ذلك أن القرآن يذكر عرشًا وكرسيِّا وقمرًا وشمسًا وكواكب ونجومًا وسموات سبع، من الأرض مثلهن ... الخ
ومصطلحات العلم التجريبي المعاصر زادت على هذه، وذكرت لها تحديدات وتعريفات لا تُعرفُ في لغة القرآن ولا العرب، فحملوا ما جاء في القرآن عليها، وشطَّ بعضهم فتأوَّل ما في القرآن إلى ما لم يوافق ما عند الباحثين التجريبين المعاصرين.
فبعضهم جعل السموات السبع هي الكواكب السبع السيارة، وجعل الكرسي المجرات التي بعد هذه المنظومة الشمسية، والعرش هو كل الكون.
وآخر يجعل ما تراه من نجوم السماء التي أقسم الله بها وأخبر عن عبوديتها، وجعلها علامات؛ يجعل ما تراه مواقع النجوم، وإلا فالنجوم قد ماتت منذ فترة. إلى غير ذلك من التفسيرات الغريبة التي تجيء مرة باسم الإعجاز العلمي، ومرة باسم التفسير العلمي ... الخ من المسميات.
وكل هذا الجهد إنما هو لأجل التوفيق بين ما يسمونه علمًا، وبين ما جاء في القرآن.
ولقد كان لهذه القضية سلفٌ كالفلاسفة الذين عاشوا في ظلِّ الإسلام حين أرادوا أن يوفِّقوا بين ما في القرآن وبين ما في الفلسفة مما يسمونه حقيقة.
8 ـ إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي، وضع قاعدة، وهي أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية.
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري، ولا يتوافق مع أصول التفسير، وهو قيد يلتزم به مقيِّده ـ وإن لم يكن في الواقع قد التزمه كثيرون ممن بحث في هذا الموضوع ـ ولا يُلزِمُ به المفسِّرَ؛ لأنَّ التفسير أوسع من الإعجاز.
ومن عجيب الأمر أن بعضهم يؤكد على هذه القاعدة، ويجعل المقام في الإعجاز مقام تحدٍ للكفار، ويقول: ... أن القرآن الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في أمة غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوي من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين، هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا في قضية واحدة وهي قضية الخلق والإفناء ... لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان، ومن هنا فإن العلم التجريبي لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير، ويبقى المسلم نور من كتاب ربه أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعينه على أن يرتقي بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف، وليس العكس. انتهى كلامه.
ولعلك ترى كيف أن هذا القائل ينقض قاعدته في نفس كلامه عنها، إذ يمكن أن يستخدم غيره هذا الضابط الذي خرم به القاعدة في الحديث عن الخلق والإفناء كما استخدمه هو، وبهذا فإنه لا يوجد قاعدة تخصُّ الإعجاز العلمي على هذا السبيل؛ إذ يمكن أن تكون كثير من فرضيات البحوث التجريبية مما لا تخضع للإدراك البشري، ثم نصححها لورود ما يدل عليها من القرآن اجتهادًا أن هذه الآية تشهد لتلك النظرية.
وهنا مسألة مهمة، وهي من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية؟
أي: من هو المرجع في ذلك؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ، أتكفي فيها دراسةٌ بحثيةٌ، أتحتاج إلى إجماعٍ من المختصين؟
هذه المسألة من أولى ما يجب أن يعتني به من يريدون تفسير القرآن بالحقائق التي أثبتها البحث التجريبي المعاصر.
وفي نظري أنَّ هذا هو أول ما يجب على الباحث تأصيله وتأكيد ثبوته من جهة البحث التجريبي، فإذا ثبت ذلك له، انتقل من يريد الحديث عن ما يسمى بالإعجاز العلمي إلى المرحلة الثانية، وهي تعلُّم التفسير وأصوله لئلا يشتطوا في تفسيراتهم، أو يلووا أعناق النصوص إلى ما يريدون.
9 ـ أما بالنسبة للمفسر، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر، وهذه الأدوات متكاملة عند الباحثين التجريبيين، وإن أخذها منهم، فإنما يأخذها ثقة به فيهم لا غير.
¥