وعمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها، أي أن عمله عمل تفسيري بحت، وهو يمتلك أدواته بخلاف كثير ممن كتب في ما يسمى بالإعجاز العلمي الذين لا يملكون تلك الأدوات، فتراهم يخبطون خبط عشواء.

فكما لا يرضى أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي بما عند المفسرين من تفسير كل ظواهر الكون التي أثبت البحث التجريبي المعاصر خطأها، فإن المفسرين لا يرضون لك واحداً من الباحثين التجريبين أن يوافق بين البحث التجريبي وما ورد في القرآن. وإن كنت أرى أن المفسر أقدر في الربط من الباحث التجريبي.

10 ـ إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به، كائنًا من كان هذا المفسر، وعمليته في هذا بيان معاني القرآن، وإذا كانت هذه مهمته هنا فإنَّ المفسِّر يبين معانيه بجملة من المعلومات التي قد يكون فيها الضعيف من جهة أفراده، كبعض الآثار الضعيفة مثلاً. فلو أن مفسِّرًا اعتمد في تفسيره على نظريةٍ من النظريات التي ثبت بطلانها لاحقًا فإنَّ الأمر أن هذا تفسير ضعيف لا يصحُّ، ولا علاقة للقرآن به، فالخطأ خطأ المفسر، وليس الخطأ في القرآن قطعًا.

وهذا يشبه ما لو فسّر مفسِّر بمعنى شاذٍّ، فهل ينال القرآن خطأ منه، وهل يقال: إن الخطأ من القرآن؟ لا شكَّ أن الأمر ليس كذلك.

لكن الأمر اختلف هنا لأنَّ الباحثين فيما يسمى بالإعجاز العلمي يريدون أن يلزموا الناس بما توصَّلوا إليه على أنَّ القرآن حقٌّ لا مرية فيه؛ لأنه أثبت هذه القضايا قبل أن يعرف الناس تفاصيلها، فألزموا أنفسهم من جهة التفسير بما لا يلزم، فأوقعوا أنفسهم في الضيق والحرج، وظهر عندهم الإلزام بتفسير القرآن بالحقائق، وذلك ما لم يطبقوه في تفسيراتهم، كما قلت.

11 ـ إن موضوع ما يسمى بالتفسير العلمي طويل جدًّا، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم كما هو الحاصل اليوم، حتى لقد جعله بعضهم الطريق الوحيد لدعوة الكفار، وأنَّى له ذلك؟

لقد أسلم كثير منهم في هذا العصر ـ ولا زالوا يسلمون بما يعرفه كثير ممن خبر إسلامهم ـ ولم يكن إسلامهم بسبب ما ورد في القرآن من حقائق وافقها البحث التجريبي.

نعم لقد كان له أثر في إسلام بعض الكفار، لكنهم أقل بكثير ممن يسلم عن سبيل الاقتناع بالإسلام، وبما فيه مما يلائم فطرة البشر، وهذا الموضوع بذاته بحث يصلح للمتخصصين في قسم الدعوة، وهو يحتاج إلى عناية.

12 ـ إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف، فإنه لا يقبل إلا بضوابط،وهذه الضوابط:

الأول: أن لا يناقض (أي: يبطل) ما جاء عن السلف (أعني: الصحابة والتابعين وأتباع التابعين).

ملاحظة: السلف عند أصحاب الإعجاز العلمي كل المفسرين السابقين، وليس مقصورًا على هذه الطبقات الثلاث.

وذلك لأنَّ فهم السلف حجة يُحتكم إليه، ولا تجوز مناقضته البتة، فمن جاء بتفسير بعدهم، سواءً أكان مصدره لغة، أو بحثًا تجريبيًا، فإنه لا يقبل إن كان يناقض قولهم.

فإن قلت: إنه يرد عن السلف في تفسير الآية اختلاف، فكيف العمل؟

فالجواب: أنَّ الاختلاف الوارد عنهم أغلبه اختلاف تنوع، وليس بينه تضادٌّ إلا في القليل منه.

والقاعدة في اختلاف التنوع:

* أن تقبل الأقوال الواردة عنهم على سبيل التنوع ما دام ليس في قبولها جميعًا ما يمنع ذلك.

* أن يُرجَّح أحد أقوالهم على سبيل القول الأَولى والأرجح دون اطِّراح غيره وتركه بالكلية؛ لأنه قد يستفاد منه في موضع آخر.

والقاعدة في اختلاف التضاد الوارد بينهم أن يرجَّح أحدها على سبيل التعيين لا التنوع؛ لأنه لا يمكن القول بها معًا، فلزم الترجيح، وهو هنا تصحيح لقول، وترك للآخر.

واطراح ما جاء عنهم بالكلية في هذين النوعين من الاختلاف معناه مناقضة قولهم، وعدم الاعتبار به، وهذا واقع كثير ممن تعرض للتفسير وجعل مصدره البحث التجريبي المعاصر.

الثاني: أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحًا.

وهو على قسمين:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015