وقد بقي ما كتبه سيبويه نبراساً للعماء الذين جاءوا بعده، وفي القرن الرابع الهجري بدأ الأمر يأخذ منحى آخر، حيث بدأ الانحراف يظهر في النطق بالضاد وخاصة التباسها بصوت الظاء؛ مما جعل العلماء يكتبون الكتب في التفريق بين الضاد والظاء، وذلك بجمع الألفاظ التي تكتب بالضاد والتي تكتب بالظاء.
وقد أحصى الدكتور حاتم الضامن في مقدمة تحقيقه لكتاب الإمام محمد بن مالك رحمه الله (الاعتماد في نظائر الظاء والضاد) تسعة وثلاثين تصنيفاً في ذلك، ما بين كتاب ورسالة ومنظومة. انظر [ص 6 - 12] من مقدمة تحقيق كتاب الاعتماد لابن مالك. وقد زاد عليه في الإحصاء الدكتور محمد بن صالح البراك في مقدمة تحقيقه لمنظومة (درة القارئ للفرق بين الضاد والظاء) لعز الدين الرسعني (661هـ). حيث ذكر 48 مصنفاً، ولم يشر إلى صنيع حاتم الضامن ولا تحقيقه لكتاب ابن مالك، ولا لعمل الدكتور رمضان عبدالتواب من قبلهما في إحصاء المصنفات في تحقيقه لكتاب (زينة الفضلاء في الفرق بين الضاد والظاء) لأبي البركات الأنباري، مع اشتهارها.
وقد استأثر الاهتمام بجمع الألفاظ التي تنطق بالضاد والظاء بجهود العلماء، فكل المصنفات التي كتبت تعالج هذا الأمر، فهي تعالج مسألة كتابة الضاد والظاء، ولم تتعرض للجانب الصوتي.
وهناك مؤلفات أخرى لعدد من العلماء تناولت الجانب الصوتي، فتحدثت عن خصائص صوت الضاد النطقية، والانحرافات التي تلحقه على ألسنة الناطقين، والأصوات التي يختلط بها أو يقترب منها، وكان لعلماء التجويد مشاركة واضحة في هذا الأمر، ومن أهم هذه المصنفات:
- رسالة (غاية المراد في إخراج الضاد) لابن النجار (870هـ) التي حققها الدكتور طه محسن في مجلة المجمع العلمي العراقي في عدد ذي القعدة عام 1408هـ.
- ورسالة (بغية المرتاد لتصحيح الضاد) لابن غانم المقدسي (1004هـ)، التي حققها الدكتور محمد عبدالجبار المعيبد، ونشرها في مجلة المورد العراقية.
- ورسالة في كيفية الضاد لساجقلي زاده (1150هـ). وقد طبعت بتحقيق الدكتور حاتم الضامن، وحدثني الأخ إبراهيم الميلي أنه يقوم بتحقيقها كذلك في الكويت، وهو أحد أعضاء الملتقى فلعله يشاركنا الحوار حول الضاد.
وقد أكدت هذه الرسائل والمؤلفات على حقيقتين:
الأولى: أن هناك تغيراً حصل في نطق الضاد.
الثانية: أن علماء التجويد كانوا مشغولين بتحديد ملامح ذلك التغير، وأنهم كانوا حريصين على التمسك بالصورة الأولى لنطق الضاد.
وأختم بالإشارة إلى كلام سيبويه حول ما سماها بـ (الضاد الضعيفة)، وهي أحد الحروف الفرعية غير المستحسنة في قراءة القرآن ولا في الشعر، وهو قوله: (إلا أن الضاد الضعيفة تتكلف من الجانب الأيمن، وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر، وهو أخف، لأنها من حافة اللسان مطبقة، لأنك جمعت في الضاد تكلف الإطباق مع إزالته عن موضعه، وإنما جاز هذا فيها لأنك تحولها من اليسار إلى الموضع الذي في اليمين وهي أخف، لأنها من حافة اللسان وأنها تخالط مخرج غيرها بعد خروجها، فتستطيل حين تخالط حروف اللسان، فسهل تحويلها إلى الأيسر، لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ما كانت في الأيمن، ثم تنسلُّ من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان، كما كانت كذلك في الأيمن). [الكتاب 4/ 432 بتحقيق عبدالسلام هارون].
وأنقل لكم بعضاً من كلام العلماء رحمهم الله في الضاد لتعلموا أن الانحراف في نطق هذا الحرف قديم.
قال مكي بن أبي طالب القيسي (ت437هـ): (ولا بد للقارئ من التحفظ بلفظ الضاد حيث وقعت، فهو أمر يقصر فيه أكثر من رأيت من القراء والأئمة ... ومتى فرط في ذلك أتى بلفظ الظاء أو بلفظ الذال فيكون مبدلاً ومغيراً، والضاد أصعب الحروف تكلفاً في المخرج، وأشدها صعوبة على اللافظ، فمتى لم يتكلف القارئ إخراجها على حقها أتى بغير لفظها، وأخل بقراءته). الرعاية 158 - 159
وقال أبو عمرو الداني (444هـ) عن نطق الضاد: (ومن آكد ما على القراء أن يخلصوه من حرف الظاء بإخراجه من موضعه، وإيفائه حقه من الاستطالة). التحديد 164
وقال عبدالوهاب القرطبي (461هـ): (وأكثر القراء اليوم على إخراج الضاد من مخرج الظاء، ويجب أن تكون العناية بتحقيقها تامة، لأن إخراجها ظاءً تبديلٌ). الموضح 114
¥